هي ذاتها مشكلتنا في كل مجال، البدء بمشروعات طموحة ذات سقف عال في رؤاها وأهدافها وخططها، ثم تبدأ العراقيل والمعوقات التي توضع في وجهها حين التنفيذ. يتقاعس البعض ويتخلى البعض الآخر ويخبو الطموح شيئا فشيئا حتى يفقد المشروع زخمه وتقل متابعته ويتوقف عند حد معين بعيدا عما كان الطموح لتحقيقه من إنجاز. يتجسد ذلك تماما في مشروع مراكز مصادر التعلم بمدارس التعليم الحكومي بالمملكة الذي انطلق من فلسفة تربوية عميقة حديثة ومتقدمة. وهي فلسفة كانت كفيلة لو سارت كما الطموح لحققت نقلة نوعية بل وجذرية في معنى ومبنى العملية التعليمية برمتها.
كان لبُ المشروع هو تجاوز المحتوى التقليدي للمكتبة المدرسية كمخزن للكتب يقدم خدمات تقتصر على إعارة الكتب والمطبوعات واسترجاعها. كان التوجه هو التحول إلى الشكل الجديد المطروح حديثا (منذ الستينات الفائتة) على المستويات التربوية العالمية والمتمثل في المكتبة الشاملة الموائمة للإمكانات المعرفية والمعلوماتية غير المحدودة التي غدا يتوافر عليها العصر الراهن.
وتتضح فلسفة التحول المذكور من مضمون التسمية التي تم التخلي عنها إلى تلك التي اعتمدت، فالمكتبة من فعل كتب ويشتق منه اسم الكتب، أي أن التركيز هنا منصب على الكتاب والكتب. أما بالنسبة لمركز مصادر التعلم فالكلام يدور حول مصادر للتعلم وليس مصدرا واحدا فقط هو الكتاب. وهو كذلك يدور حول التعلم من قبل المتعلم وليس التعليم من قبل المعلم. ومن هنا يتحدد مفهوم مركز مصادر التعلم، حيث يعرّفه المختصون بأنه مكان ذو أقسام يضم كل منها مصدرا من مصادر المعلومات المقروءة،المرئية، المسموعة والمرئية المسموعة. وهذه المصادر تُنظم وتُهيئ ليتعلم منها جمهور البيئة المدرسية من طلبة، معلمين، إداريين وآباء.
الفرق بين مفهومي المكتبة ومركز مصادر التعلم مرتبط بمفهومي التعليم والتعلم. التعليم هو ما يحصل عليه المتعلم من زاد معرفي عن طريق المعلم في ظل البرامج المدرسية المحددة. المعلم هنا هو مصدر المعرفة وتعتمد العملية التعليمية على عنصري التلقين من جانبه والتلقي من جانب المتعلم. أما التعلم فهو عملية اكتشاف ذاتي للمعارف واكتسابها يقوم بها المتعلم بمفرده أثناء ممارساته اليومية لكل نشاط دراسي قرائي،كتابي، بحثي، أو عملي. المتعلم هنا محور أساس في العملية التعليمية، وما دور المعلم سوى التوجيه والإشراف وتصحيح المسار.
وبناء على ما أسلفنا فالفلسفة التربوية وراء تبني مشروع مراكز مصادر التعلم تتلخص في أن لدى كل إنسان استعداد فطري وإمكان للتعلم. وما دامت الفروق الفردية في قدرات التعلم مثبتة علميا، فمن حق المتعلم أن يجد ما ومن يساعده على التعلم وإتقانه. والأساليب التعليمية التقليدية المرتكزة أساسا على الدور الحاسم للمعلم في التعليم التلقيني للتلميذ الذي لا يملك سوى تلقي المعلومات وحفظها واستظهارها، أصبحت أساليب عاجزة عن تلبية استعداد المتعلم للتعلم. والتفجر المعرفي الذي هو سمة العصر يجعل الكتاب الدراسي والمعلم والسبورة مصادر منقوصة للتعلم. لقد غدت مختلف الوسائل السمعية والبصرية مصادرا للمعرفة والتعلم بدءا من الشريط السمعي انتهاء بالإنترنت وإلى ما سيكشفه لنا العلم مستقبلا.
ومركز مصادر التعلم بما يتوافر عليه من إمكانات ومصادر معلومات متنوعة يمكنه أن يحقق نقلة عصرية تلائم معطيات ومتطلبات القرن فهو يعطي المتعلم الدور المحوري في التعلم. ويتيح للمتعلمين فرصا أكثر ملاءمة للتعلم حسب قدرة كل فرد وفي الوقت اللازم له كي يتقن تعلمه. كما أن مركز مصادر التعلم يمكّن المدرسة من تجاوز الأساليب التقليدية في التعليم ويطرح البدائل المتعددة في تلقي المعلومات إثراء للمواقف التعليمية بالمقرر الدراسي في إطار أهداف ومحتوى المنهج.
نالت الفلسفة المذكورة اهتمام التربويين في البحرين، فقد أقرت لجنة التربية والتعليم اقتراح تحويل المكتبة المدرسية التقليدية إلى مركز مصادر تعلم العام 1986م، ثم أقر المشروع بشكل نهائي العام 1988م. بعدها طُرح برنامج الدبلوم العالي في مصادر التعلم والمعلومات بجامعة البحرين بالتنسيق مع وزارة التربية والتعليم التي ابتعثت أفواجا من مدرسيها لنيل هذا الدبلوم. ومنذ العام الدراسي 92/1993م بدأ تحويل المكتبات إلى مراكز مصادر تعلم.
وقد وجدت الفلسفة صداها في الأهداف التي طرحت لمراكز مصادر التعلم وأساسها توفير بيئة تعليمية معرفية ذات مصادر متعددة تنوع من أنماط التعلم وترتقي بالتعليم إلى مستوى التركيز على التعلم بتوفير المواد التعليمية الملائمة لأساليب التعلم وتقديم اختيارات تعلمية متنوعة لا توفرها أماكن الدراسة العادية وتحقيق ربط مصادر المعلومات بأنواعها بالمقررات الدراسية.
وكذلك لبت الأدوار التي أنيطت بمركز مصادر التعلم بالمدرسة الفلسفة ذاتها. فالمركز بالمدرسة يؤدي أدوارا تبدأ بتوفير مصادر المعلومات على أنواعها وتهيئتها فنيا لتصل ليد المستفيد في أسرع وقت وبأقل جهد. كما يقوم بتعزيز العملية التعليمية وإثرائها بالتداول والمناقشة مع المعلم والإدارة المدرسية حول المقررات الدراسية وطرح خيارات تعليمية تعلمية منوعة بين يدي المعلم والمتعلم من خلال توفير مصادر التعلم بأنواعها. وبذا يكون مركز مصادر التعلم هو قلب المدرسة النابض الذي يمد كل المجتمع المدرسي بالحياة، فيفتح أبوابه لاستقبال وخدمة المستفيدين منذ الصباح حتى نهاية اليوم الدراسي. يرى احتياجات كل معلم ومتعلم ويعمل على توفيرها، يزود المدرسة بمصادر المعلومات باختلاف أنواعها. كما يشكل المركز مصدر الإشعاع الثقافي والفكري بالمدرسة بما ينظمه من فعاليات ثقافية ومسابقات وما يصدره من إصدارات تغني الثقافة المدرسية وترفع من مستواها وتظهر إبداعات الطلبة. ولمركز مصادر التعلم دور في رفع الكفاءة المهنية للمعلم من خلال ما ينظمه من فعاليات تربوية تصب في هذا المجرى. وهو مسئول عن تعليم التلاميذ مهارات توظيف وتوثيق مصادر المعلومات توطئة لمضي المتعلم في مسار التعلم الذاتي وإكسابه الحاجة للتعلم المستدام. وعلى الاختصاصي أن يتفاعل مع الحدث المدرسي وفعالياته المختلفة ويكون مشاركا في توجيه دفة المدرسة وتفعيل مجالسها ولجانها العاملة لصالح تطوير العملية التعليمية.
بعد أقل من عقد على بدء التجربة، اهتم المسئولون بوزارة التربية والتعليم بتقويم تطبيق المشروع في الميدان من خلال دراسة مسحية لمراكز مصادر التعلم في المدارس الثانوية في البحرين العام 1998. وعلى رغم جوانب القصور في الدراسة وعلى رأسها تغييبها لرأي المتعلم وعدم تغطيتها مرحلة التعليم الأساسي، فقد وضعت الدراسة واقع مراكز مصادر التعلم بقصوراته وسلبياته بين يدي المسئولين في وزارة التربية والتعليم. لقد أكدت الدراسة على غياب واضح لدور الجهة المسئولة وزاريا عن متابعة وتوجيه مراكز مصادر التعلم ممثلة في مركز التقنيات التربوية. وأبرزت اختلاف وعي وسياسة الإدارات المدرسية في متابعة وتعزيز دور المراكز. كما أكدت على أن اختصاصي مصادر التعلم مازال يمارس عمله كفني مكتبة لا أكثر. وأوضحت أن المراكز لا تشكل مصدرا للتعلم الذاتي، إلى جانب ضعف دور المعلم في تفعيل تلك المراكز وغيرها من سلبيات.
ولأن الميدان التربوي ذاته كان جزءا من التجربة العملية الشخصية لكاتبة السطور، فقد رفعتْ العام 2002 تقريرا مطولا للمسئولين في مركز التقنيات التربوية يتضمن تعقيبا على الدراسة المذكورة ومقترحات لتقويم التجربة. إلا أنه لم يتم تلقي أي رد أو رأي عن التقرير وربما لم يُقرأ، وربما لم يزل طي النسيان أو الضياع.
اليوم وقد قاربت التجربة على إكمال عقدين من الزمن فالواقع ذاته بقصوراته وسلبياته مستمر والحال يتردى بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فلم تُفعّل مراكز مصادر التعلم في عملية التعلم الذاتي، ولم يتحول غالبية المتعلمين من متلقين إلى فاعلين ذاتيا في التعلم. ولم يتحول مركز مصادر التعلم إلى قلب المدرسة النابض الذي تدور في فلكه العملية التعليمية والمعرفية بالمدرسة، كما يغيب دوره في تطوير العملية التعليمية. وفي الغالب لم تزل مراكز مصادر التعلم مخازن للكتب مضافا لها الأجهزة والوسائل التعليمية، وتقتصر مهمة معظمها على إعارة الكتب والأجهزة والوسائل ومتابعة إرجاعها.
وجهة النظر أعلاه مبنية أساسا على معايشة شخصية ضمن التجربة لجوانب القصور كافة امتدت تسع سنوات حتى العام 2003، ومن بعدها على المتابعة لما يجري في الميدان والتعرف على آراء زميلات وزملاء المهنة الذين ما زالوا يخوضون غمار المعركة. فمن هؤلاء من يعي قيمة تحول المكتبة التقليدية لمركز مصادر تعلم ويحمل هاجس التغيير والتطوير لصالح أبنائنا المتعلمين. وهو يؤكد جوانب القصور ويطرح مؤشرات جديدة على تردي الأوضاع. ومنهم على النقيض من ذلك يقول: دعنا هكذا، ما حاجتنا لفلسفة التغيير ولمتابعة وتقييم مركز التقنيات التربوية. ولِم ننبه الإدارات المدرسية للدور الحقيقي لمركز مصادر التعلم فتوجع رؤوسنا بمتطلباتها!
بالمحصلة النهائية كأن ما جرى تغيير في المسميات لا أكثر، فمركز مصادر التعلم يبقى مخزنا للكتب أضيفت لها الأجهزة والوسائل التعليمية، أما الفلسفة الحقيقية للتحويل فأظنها قد أُفرغت - فعلا - من محتواها.
إقرأ أيضا لـ "فوزية مطر"العدد 1849 - الجمعة 28 سبتمبر 2007م الموافق 16 رمضان 1428هـ