بحسب ما يردد الرئيس جورج بوش فإن التصويت لصالح القرار الثاني مفيد لكنه ليس ضروريا. والمسئولون في الإدارة الأميركية يؤكدون ان الرئيس اتخذ قراره، مهما كانت نتيجة التصويت في مجلس الأمن ومهما فعل العراق الآن. لكن في جوهر الواقع تحشد الإدارة الأميركية بمن في ذلك الرئيس، كل القدرات من أجل كسب معركة القرار الثاني، لأنه من دونه تصبح الامور معقدة بالنسبة إلى الرئيس إلى درجة يمكن ان تمس مستقبله السياسي... وذلك لعدة أسباب:
أولا: يشير استطلاع للرأي أجرته حديثا مؤسسة «تايم/ سي إن إن»، إلى أن 61 في المئة من الأميركيين إما يعارضون شن حرب على العراق تحت أي ظرف، أو يؤيدونها فقط إذا أجازتها الأمم المتحدة. وبهذا المعنى القرار الثاني مهم لحشد الرأي العام للحرب التي يريدها الرئيس، ومن دون هذا الحشد فإن القيود ستكون كبيرة لخوضها، وبالتالي فإن مغامرة خوضها ربما انجبت عواقب غير محتملة.
ثانيا: يرى معظم المحللين ان خوض الحرب من دون القرار الثاني يصبح النصر فيها اصعب وربما غير قابل للتحقيق. فنحن نعلم ان الادارة الأميركية تسعى عبر هذه الحرب إلى تغيير النظام السياسي في العراق، وبالتالي فإنه في حال عدم تحقيق هذا الهدف، فآنذاك سيصبح من السهل القول ان أميركا هزمت في الحرب، مهما كان شكل الدمار الذي ألحقته عبر جرافة الهدم التي تتيحها قدراتها العسكرية. اما في حال خوض الحرب تحت راية الامم المتحدة ووفقا للقرار الثاني، فإن هدف تغيير النظام السياسي في العراق سيظل رغبة أميركية متخفية تحت مزاعم نزع اسلحة الدمار الشامل العراقية. ولذلك في ظل وجود القرار الثاني فإن حرب أميركا حتى وإن عجزت عن تحقيق هدفها الاصلي يمكن للإدارة الأميركية ان تتبرقع بنصر موهوم بإعتبارها قامت بنزع اسلحة العراق المحظورة قسرا.
ثالثا: وتبعا للنقطة السابقة، فإن كلفة الحرب المادية وتداعياتها السياسية وما ستخلفه من نتائج ومآس ستتحمل اعباءها الولايات المتحدة تقريبا لوحدها - على الاقل من حيث المسئولية ـ في حال خوض الحرب من دون قرار ثان. وعلى العكس سيشارك في المسئولية وفي الاعباء كل من ساهم بصدور القرار بشكل مباشر او غير مباشر. وطبعا في الحالين سيتحمل المساهمون في الحرب قسطهم من المسئولية والاعباء والكلف.
رابعا: ان المعارضة الدولية للحرب، في عمقها الحقيقي، تعبير عن ارهاصات حقيقية لإعادة صوغ العلاقات الدولية وتشكيل نظام عالمي قائم على التعددية. أميركا في تغليبها لمنهج الاستبداد والهيمنة انما تسعى إلى تكريس الاحادية في النظام العالمي. وعلى العكس فإن فرنسا والمانيا وروسيا والصين مدعومة بغالبية كبيرة من الاسرة الدولية تسعى الى فرض التعددية في صناعة القرار الدولي، وإعادة الاعتبار إلى المنظمة الدولية ونزع الوصاية الأميركية. ووفقا لهذا الادراك فإن معركة القرار الثاني هي جولة رئيسية لحسم النتائج التي سيؤول اليها النظام العالمي الذي سيتبلور بنهاية الازمة العراقية.
خامسا: ان الكثير من حلفاء أميركا الراغبين في الحرب بحاجة الى صدور القرار الثاني للمشاركة فيها ولمواجهة خصومهم أو منتقديهم الداخليين، وفي مقدمة هؤلاء حكومة طوني بلير. لأن هذه الحكومة تواجه معارضة شديدة اذا ما اشتركت في الحرب من دون قرار دولي، وقد تؤدي بها مثل هذه المشاركة الى الانهيار والسقوط. وفي المقابل فإن صدور القرار الثاني يسهل على المتمنعين المشاركة في التحالف الذي تقوده أميركا لشن الحرب، ومن بين هؤلاء تركيا وإن كانت تريد من ممانعتها ان ترفع ثمن مشاركتها في الحرب. وتاليا فإن صدور القرار الثاني سيسهل خوض الحرب بتبعات وتداعيات اقل على أميركا والمشاركين معها في هذه الحرب؛ مما سيكون عليه الحال في حال عدم صدور القرار.
لكل الاسباب اعلاه، فإن اصدار القرار الثاني اضحى قضية حساسة للادارة الأميركية الحالية. ولكن آلية اصداره بدورها بحاجة الى تصويت 9 دول على الاقل في مجلس الامن لصالح مشروع القرار الذي قدمته الولايات المتحدة وبريطانيا واسبانيا في 24 فبراير/ شباط وشريطة عدم استخدام أي من الدول الخمس الدائمة العضوية حق النقض (الفيتو) لوقف صدور القرار. وحشد مثل هذا العدد مسألة ليست بسيطة، فقد كان واضحا منذ البداية ان المشروع لا يحظى بتأييد سوى بلغاريا، بينما ترى 11 دولة الاخرى الاعضاء في مجلس الامن ضرورة اعطاء فترة اضافية للمفتشين مادامت عمليات التفتيش لا تواجه عوائق في العراق ومادامت تحرز تقدما في مجال الرصد والتحقق من الاسلحة المحظورة، ولاسيما ان الشكوك الأميركية والبريطانية التي تزعم حيازة العراق أسلحة الدمار الشامل لم تؤكدها الوقائع. ولم تقدم الدولتان ادلة لاثبات مثل هذه المزاعم.
وهذا ما عقد الامر على واشنطن التي اتجهت في اطار خوضها لمعركة القرار الثاني الى اعتماد دبلوماسية لي الاذرع في مواجهة اعضاء مجلس الامن بغية ضمان تمرير القرار في حلول منتصف مارس/ اذار. وحتى لا تستنفذ واشنطن الكثير من ادواتها وبالتالي تبدد الوقت، فإن اولوياتها لم تركز على المانيا وسورية لأنهما برزتا اكثر ثباتا في معارضتهما للتوجهات الأميركية بشأن العراق، وانما اتجهت إلى الدول الست الاخرى الاعضاء في المجلس انغولا والكاميرون وغينيا وتشيلي والمكسيك وباكستان.
واذا كانت الدول الافريقية اجمالا ايدت في القمة الفرنسية الإفريقية التوجه الفرنسي في معالجة الازمة العراقية، فلا يعتقد ان موقف الدول الافريقية الثلاث سيظل ثابتا على ذلك التأييد. والسبب يكمن في ان المحتاجين اقل قدرة على مقاومة دبلوماسية لي الاذرع ولاسيما اذا كانت صادرة من الدولة السوبر عظمى في العالم... والمتوقع من هذه الدول ان تستفيد من الفرصة لتحقيق بعض المكاسب. فأنغولا التي لم تنته فيها الحرب الأهلية إلا حديثا هي بحاجة ماسة إلى المال لإعادة إعمار البلد. وهكذا أفصح سفيرها لدى الأمم المتحدة عن مطالبة بلاده بالمساعدات المالية. مؤكدا ان بلاده تعول في المقام الأول والأخير على واشنطن لتقديم تلك المساعدات المالية. كما أنها تنظر إلى واشنطن لحل مشكلاتها مع صندوق النقد الدولي، لاسيما ان واشنطن وعدت ومنذ اشهر كثيرة بأن تكون واحدة من اهم زبائن النفط الانغولي. اما بالنسبة إلى الكاميرون وغينيا، فهما بالاصل تتلقيان دعما ماديا من واشنطن بكميات متفاوتة، وبالتأكيد أن لديها مطالب مادية ستقوم واشنطن بتلبية جزء منها في حال دعم القرار الثاني الذي تريده واشنطن. وهذا على الاقل ما نقله دبلوماسيون افارقة للعراق. اما الحكومة الباكستانية، فإن وجدت نفسها بين خيار قمع المظاهرات والاحتجاجات في باكستان وخيار خسارة ملايين الدولارات التي تقدمها إليها الولايات المتحدة في صورة دعم مالي وعسكري منذ موافقتها على مناصرة أميركا في حربها على افغانستان، فإنها بحسب المراقبين ستصوت مع الجانب الأميركي لتحتفظ بذلك الدعم.
واذا كان المراقبون يسجلون على العلاقات بين المكسيك والولايات المتحدة وجود خلافات كبيرة بسبب قضية الهجرة العالقة بين البلدين، فإن الحقيقة الكبيرة تظل ماثلة ألا وهي أن الولايات المتحدة تمثل أكبر شريك تجاري للمكسيك. وتصويت المكسيك ضد القرار الذي تتزعمه أميركا قد يؤدي إلى اتخاذ الولايات المتحدة إجراءات انتقامية تضر بالتجارة المكسيكية مع الولايات المتحدة؛ وهذا فعلا ما يخيف المكسيك. كما أن زيارة رئيس الوزراء الإسباني للمكسيك ربما أسهمت في تقريب الموقف المكسيكي من الموقف الأميركي. واذا كانت المكسيك لاتزال تعلن بعض تحفظاتها، فذلك ليس إلا طمعا في الحصول على ثمن اكبر.
وبحكم التقارب الكبير بين تشيلي والمكسيك فإن الكثير من المحللين يرون أن تصويت تشيلي على القرار مرهون بتصويت المكسيك. ولكن هذا لا يعني أن ليس لدى تشيلي مصالح مع واشنطن قد تجعلها تختار الجانب الأميركي بغض النظر عن موقف المكسيك.
ووفقا للمعطيات اعلاه، فإن القرار الثاني سيصدر ما لم يستخدم (الفيتو). وموضوع استخدام (الفيتو) من عدمه في الحقيقة يعكس صراع إرادات بدوره ابعد من قضية (الفيتو) نفسها وأبعد حتى من مسألة العراق. ويحتاج الى وقفة اخرى
العدد 184 - السبت 08 مارس 2003م الموافق 04 محرم 1424هـ