مازلت أقف طويلا عند دعاء مكارم الأخلاق للإمام زين العابدين (ع) عندما يقول «والقول بالحقّ وإن عزّ». نعم، القول بالحق وإن قل ناصروه وكثر مناوئوه، وتبعته المخاطر والصعوبات، وقابله التضييق في العيش، وقلة الفرص. في زماننا هذا لم يعد الأمر محصورا على قول الحق فقط، وإنما تعدى الأمر إلى إخفاء الحقيقة، واستدعاء الكذب على أنه الصدق الذي لا يأتيه الباطل، فالإنسان مهما علا شأنه، وتغير موقعه كفرد أو داخل منظومة تراه عندما يمحص في الاختبار يختار - إذا كتب له الاختيار - أهون الشرين الكذب أو إخفاء الحقيقة وكلاهما واحد. فالنفس البشرية تفتقد رويدا صدقيتها وسط أهوال المصلحة والذاتية، ونراها تتعدى ذلك لتفتك بالآخرين وتخفي الحقيقة عنهم إذا كانت تمتلك السلطة والقوة. فهل للصدق مكان بيننا؟
ظل قول الحق مرتبطا بالمؤرخ ردحا من الزمن، إذ شاعت مقولة «صدق المؤرخ رأس ماله» لأن الإنسان كان يستسقى حقيقة أي حادث من راويه، فلو سألنا ما هو التاريخ؟ فان إجابتنا ستعكس عن وعي أو من دون وعي «موقفنا من الزمان». إن تاريخ البشر عبارة عن سلسلة من التجارب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي وصلت إلى قمتها في صورة حضارة قائمة بذاتها، لقد انتقل علم التاريخ خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في أوروبا من فرع ثانوي من فروع المعرفة يمارسه بعض الناس على أنه هواية أو وسيلة للتقرب من الله برواية أخبار الصالحين، أو التملق إلى الملوك بكتابة تراجمهم وتواريخ دولهم إلى علم مقرر الأصول والمناهج، وعلى إثر ذلك ظهرت مجموعة من المؤرخين آمنوا بمنهجية التاريخ وشموله، إلا أن بعضهم رأوا أننا لا نستطيع الوصول إلى صورة الماضي كما كانت بالضبط، وإنما نراه متأثرين بشخصياتنا وانتماءاتها، وبعصرنا ومفاهيمه، فلذلك حلت عبارة «التاريخ النسبي»، ولكن هل حوادث الماضي منقطعة الذكر فعلا؟ فكيف ببعض الجماعات البشرية المعاصرة التي أوجدها التاريخ في وضعية معينة. فهل ينسى زنوج أميركا يوما تاريخهم، لأنه فرض عليهم أن يكونوا أمة جديدة؟ وهل يحق لنا نحذف حقبا من تاريخنا؟ ومتى يصبح تاريخنا بلا فواصل؟
في القرنين الخامس عشر والسادس عشر انهار عالم القرون الوسطى، لتوضع أسس العالم الحديث، وذلك باكتشاف قارات جديدة، وبزوغ جماعات وطبقات وشعوب، كانت في يوم ما خارج التاريخ. ومع الانتقال من القرن الثامن عشر وهو عصر النخب الى القرن التاسع عشر ظهر المجتمع القومي المبني على أساس العرق والجنس، وتحول الثقل العالمي من شواطئ المتوسط إلى شواطئ الأطلس، وبدأ الغرب يقود العالم الحديث قي سياق من التحول التدريجي، ولذلك جاء القرن العشرون وهو يحمل سمات خاصة، ربما كان أكثر عمقا وأكثر شمولا من قبل، وذلك نتيجة الاكتشافات والاختراعات العلمية التي أخذت شكل التحول المعرفي والجغرافي، فأصبحت الحقيقة المبنية على المعلومة سيدة الموقف في المجتمع الأوروبي، إذ ركزت أوروبا على المادة الارشيفية وخصوصا بعد الثورة الفرنسية، والتي أوجدت ارشيفات وطنية جمعت فيها مجموع ارشيفات المجالس والدوائر الحكومية، وأعلنت حكومة الثورة أن هذه الارشيفات «ملك الأمة»، إذ ليس للذهن البشري أن يتصور وقوع حادث من أي نوع، إلا أن يسأل كيف؟ ومتى؟ وأين؟ وبأي حجم؟ وما العدد؟ وبالإجابة عنها بصدق، تكون كل المعلومات في متناول الجميع، ولتصبح كل مشكلة قابلة للحل، إذ إن الاستكشاف لا حدود ولا نهاية له، فعصرنا عظيم وكبير الاتساع ويعج بالحقائق. فالباحث غرادغريند كان كثيرا ما يردد «أن ما أريده هو الحقائق، فلا شيء سواها مطلوب في الحياة» فالحقائق مقدسة، أما الرأي فهو حر، لكن ما مدى التزامنا بالحقائق؟ وبالأحرى، كيف نحصل عليها في ضوء التعتيم عليها، إذ إن احترام الحقائق، لا يأتي إلا من صحتها؟
علماء الأنثروبولوجيا يرون أن الإنسان البدائي أقل فردية، فهو يعيش ضمن عالم المجموعة، بينما ازدادت الفردية في المجتمع الحديث، فمع بداية الثورة الصناعية جاءت فرص جديدة لبروز الفرد بسبب وحدات الإنتاج والتوزيع، ومعها احتل الفرد رقما ووزنا نسبيا. وعليه، أصبح المجتمع المعرفي قائما على البيانات التي تدفع نحو التنمية المستدامة في كل مستويات التقدم الإنساني والحضاري. لكن، أين نحن من هذه الحقائق؟ وهل حرماننا منها يؤدي إلى مزيد من باسنا وشقائنا، فالمفكر هيجل يرى أن الشرقيين، لم يعرفوا الحرية، لأنهم لم يكونوا أحرارا. ربما لأن الحقائق حجبت عنهم، إذ لا شيء في الحقائق يموت أو يسقط، وأصحاب الرأي هم الذين يقودون الجماعة في استجابتها للتحدي وبناء الحضارة، ونتساءل هنا: إذا كانت الشعوب لا تمتلك الشجاعة في التغيير والطموح في الحصول على الحقيقة، فهل تستطيع جماعة من أصحاب الرأي والقيادة أن تقودهم إلى التغيير؟!
إقرأ أيضا لـ "رملة عبد الحميد"العدد 1833 - الأربعاء 12 سبتمبر 2007م الموافق 29 شعبان 1428هـ