عادة ما يجري الربط بين الديمقراطية التوافقية consociational) (democracy والمحاصصة الطائفية، ومن جهة أخرى فإن كثيرين تعودوا على الربط بين التعددية الثقافية (multiculturalism) وتكريس الانتماءات الطائفية (أو الجماعية عموما). والحق أن هذين أهم انتقادين يوجّهان إلى الديمقراطية التوافقية والتعددية الثقافية على وجه العموم، وأصحاب هذه الانتقادات، في الغالب، ليبراليون ويساريون وقوميون. وتتفق هذه الأطراف، على ما بينها من اختلافات جذرية، في رفض التعددية الثقافية والديمقراطية التوافقية، أما الليبراليون فإنهم لا يتقبلون أن تكون الجماعة حقيقة مهمة وذات اعتبار ولا تقل أهمية عن حقيقة الفرد وحقوقه وحرياته، وهم يؤمنون بأن حقوق الإنسان تستهلك بصورة فردية لا جماعية. وأما اليسار فإنه يتأسس على أيديولوجيا أممية ترى أن الطبقة - وليست الجماعة والهوية الثقافية أو أي انقسام آخر - هي الحقيقة المادية الحاسمة في تحديد انتماء المرء، وأن الصراع الحاسم هو الصراع الطبقي الذي ينتهي بانتصار الطبقة العاملة لتنتهي بعد ذلك كل الصراعات والانقسامات. في حين يرى القوميون أن التعددية الثقافية عبارة عن وصفة جاهزة للتشرذم وتمزيق «الأمة» الموحدة، وبهذا المعنى فإن التعددية الثقافية لا تعني لديهم إلا «الطائفية والتعصب الديني وضيق الأفق، وهم يذهبون إلى القول بأن من يعارض الاندماج إنما يريد للمجتمع أن يتفسخ أو أنه يخاطر بذلك». أما التوافق فإنه «يصبح بعد فترة من الفترات عقبة أساسية أمام عملية التحوّل الديمقراطي ذاتها، إذ إن هذه الدينامية تصطدم بممانعات أو حواجز جرى ترسيخها» عبر هذا التوافق الذي اعترف بهذه الحواجز، بل «خلّدها وأبّدها عندما أعطاها اعترافا شرعيا وقانونيا». ولهذا يطالب هؤلاء بأن تكون الديمقراطية التوافقية مرحلة انتقالية أولية في عملية التحول الديمقراطي، وينبغي، لهذا، أن تتأسس على أسس «العدالة الانتقالية». وبحسب هذا النقد فإن العيب الأخطر في التوافق أنه ينتهي إلى نوع من «المحاصصة الطائفية» التي تقوم على مكافأة الزعامات السياسية الممثلة لهذه الطوائف، وإلى بروز فئة الانتهازيين (free riders) الذين لا يشهرون انتماءهم الطائفي إلا إذا شعروا بوجود منافع ومزايا تنتظرهم. فهم، بحسب التسمية الإنجليزية، ركاب أحرار ينتفعون بأنشطة الآخرين من دون أن يشاركوا فيها.
ومع هذا ينبغي أن نقول بأن صيغ «الديمقراطية التوافقية» و«الوطنية الدستورية» و«التنوع العميق» لا تقدم حلولا نموذجية، بل إنها تنطوي على عيوب كبيرة، إلا أنه علينا أن نتذكر أن الخيار في المجتمعات التعددية المتنافسة (كيلا نقول المتخاصمة والمتحاربة) ليس بين الديمقراطية التوافقية والديمقراطية الحقيقية، بل هو بين الانزلاق إلى نزاعات وحروب أهلية أو الانفصال وتجزّؤ الدولة إلى دويلات صغيرة من جهة، وبين تعطيل هذه الخيارات من خلال التوافق الجماعي من جهة أخرى. فالتوافق قادر على تعطيل الدوافع التي تحرّك التنافس السياسي الجماعي، كما أنه يعطّل صراع الهويات، وذلك من خلال استبعاد الحاجة إلى صهر الهويات ودمج الجماعات في «هوية ثقافية رسمية موحّدة»، ومن خلال تأمين «مجال الدولة العام» وحمايته من طبائع الاستملاك الجماعي، وكل هذا يتم بقوة الدستور ومبادئه ومؤسساته، وبقوة التوافق الوطني حوله. والأهم أن هذه الصيغ قادرة على حسم الخلاف الذي ينشأ حول مسألة «الولاء الوطني». فإذا كان فقدان الإجماع - بما فيه الإجماع الوطني - هو أهم ضريبة تُدفع في المجتمعات الديمقراطية، فإن «الديمقراطية التوافقية» و«الوطنية الدستورية» و«التنوع العميق» تمثل صيغا بديلة لتحقيق هذا التوافق الإجماعي بعد تبديل مراكز الولاء من المقولات الخلافية التي تفقد إجماعها في مجتمع ديمقراطي متعدد الثقافات من قبيل: الولاء للهوية الثقافية، للقومية، للعرق، للأيديولوجيا، للتاريخ المشترك، للتراث الموحد... إلخ بحيث يصبح الدستور ومبادئه ومؤسساته هي المركز الذي يستقطب ولاء المواطنين، وهي عنوان الولاء الوطني، ونقطة تتحقق عندها صيغة مستحدثة من «الإجماع الوطني»؛ لأنه إجماع حول الدستور ومبادئه ومؤسساته. ولهذا نقول إن الدستور لا ينبغي أن يكون فاقدا للمشروعية والتوافق العام، لأن هذا يحوّله إلى مقولة خلافية مثله مثل بقية المقولات الأخرى، فيصبح عاجزا عن إنجاز الإجماع الوطني، وعندئذ يصبح الحديث عن «الديمقراطية التوافقية» و«الوطنية الدستورية» و«التنوع العميق» حديثا فاقدا للمعنى، بل سيكون فرضه عاملا من عوامل إنتاج الأزمات والمآزق والتنازع تماما كمن يجبر كل المواطنين في مجتمع متعدد الثقافات على أن يكونوا قوميين أو دينيين أو طائفيين أو أيديولوجيين. لأن «الوطنية» حين تفرض بلا موضوع تصبح كلاما فارغا، وحين تفرض ويكون موضوعها خلافيا وليس محل إجماع، فإنها تنضاف إلى بقية مقولات الأزمة السابقة.
وبحسب الحجاج الذي يقدمه أصحاب «الديمقراطية التوافقية» و«الوطنية الدستورية» و»التنوع العميق»، فإن فقدان الإجماع الوطني ضريبة ينبغي أن تدفع في المجتمعات الديمقراطية، إلا أن هذا الفقدان ليس حاسما وأبديا ولا شفاء له، إذ يمكن أن يتحقق الإجماع الوطني في ظل هذه النماذج، وبحسب ليبهارت فإن الديمقراطية التوافقية يمكن أن تكون «بانية للأمة»، وعلى رغم أنها قد «تميل على المدى القصير إلى تعزيز الطابع التعددي للمجتمع التعددي»، إلا أن تطاول مدة الحكم التوافقي الناجح قد «يمكّن من حلّ بعض الخلافات الكبرى بين الفئات»، ويمكن لهذا الخيار أن يعمل على «نزع الطابع السياسي عن التباينات الفئوية»، كما أن «تطاول مدة هذا الحكم قد يخلق ما يكفي من الثقة المتبادلة على مستوى النخبة والجماهير»، وقد تكون هذه الثقة المتبادلة بداية لتحقيق «الاندماج الوطني» (الديموقراطية التوافقية، ص 340 - 341). وإذا ما أخفق هذا البديل في تحقيق الاندماج الوطني و«بناء الأمة»، فإنه من المؤكد أنه لن يخفق في إنجاز المهمة غير المنجزة: التوافق داخل الدولة في مجتمع تعددي.
لقد كان توكفيل يؤمن بأن «الحداثة ستؤدي إلى الامتزاج الثقافي بين الشعوب»، وأنها ستعمل على إحلال القيم الموحدّة «محل الاختلافات الثقافية»، كما كان منظرو الحداثة الأوائل يؤمنون بأن قيم الحداثة و«كونية العقل ستحلّ محلّ الخصوصيات الاجتماعية والثقافية والقومية» (نقد الحداثة، ص 190)، إلا أن التاريخ أثبت خطأ هؤلاء جميعا، فبدلا من أن تتلاشى القوميات والطوائف والاختلافات الثقافية مع تقدم الحداثة إذا بنا نشهد فوران قومي وعرقي وطائفي مفاجئ. لقد كان هؤلاء على خطأ؛ لأنهم راهنوا على قدرة «العقل الكوني» على تنميط البشر، وعلى قدرة مؤسسات الإنتاج الضخمة والعابرة للقوميات التي تنتج السلع الاستهلاكية الموحدة، ما يوهم أن العالم أجمع سينخرط في طقوس استهلاكية مشتركة، وستكون النتيجة هي تلاشي القوميات وذوبان الاختلافات الثقافية. إلا أن ما غفل عنه هؤلاء هو أن السلوك البشري أكثر تعقيدا ما نتصور، وإذا كان لدى البشر «عقل كوني» فإنهم يمتلكون كذلك ذاكرة ليست كونية على الإطلاق، وأن لهذه الذاكرة قدرة محيّرة على استدعاء الماضي بكل بقاياه العقلانية واللاعقلانية، والاختلافات الثقافية واحدة من بقايا هذا الماضي اللاعقلانية. بل إن الذاكرة لا تنتعش إلا حين تواجه هذه البقايا خطر النسيان والانقراض والذوبان. والحاصل أن الاختلافات الثقافية حين تذوب فإن الناس «يتذكرونها بحنين، ويعلّقون على ما تبقى منها قيمة كبيرة. ولأن جماعات مختلفة تشترك في القيم نفسها، فإنهم يتنافسون أكثر على حيازة السلع نفسها ويحسد كل منهم الآخر بدرجة أعلى» (القومية والعقلانية، ص 235). وحين يجتمع هذا التذكر الثقافي المشوب بحنين كبير لما تبقى من «الثقافة» مع التنافس الجماعي المحموم على استملاك ما هو عام ومشترك بين الجميع، فإن المحصّلة هي أن النظام السياسي والاجتماعي يكون مهددا بالانهيار في كل مرحلة يتأجج فيها هذا التذكر وهذا الاستملاك. أما الحجاج الذي دافعت عنه هذه السلسلة من المقالات فهو أن التوافق يسمح بممارسة التذكر الحنيني بأمان، كما أنه قادر على تنظيم التنافس الجماعي داخل الدولة.
ليس التوافق حلا نموذجيا، إلا أنه، في هكذا مجتمعات، عبارة عن تسوية، أو حلّ وسط بين الاندماج الوطني وبين التنازع والصراع الجماعي. فإذا تعذّر تحقيق الاندماج - وهو متعذر في غالب الأحيان - فإن التوافق الوطني يضمن عدم انهيار الدولة والنظام تحت ضغط التنافس الشديد والتنازع الجماعي المحموم. وقدرة هذا البديل على تحقيق ذلك تمثل فضيلة ثمينة جدا في مجتمع تعددي تكوّن في دوّامة تأزيم متواتر.
أعرف أن هذه السلسلة من المقالات قد طالت أكثر مما ينبغي، وصار الكثير من القراء يتوقعون نهاية لهذا الانتظار المعلّق منذ عام أو يزيد، وفي المقابل هناك آخرون كان يشغلهم كثيرا أن يصنفوا صاحب هذه المقالات في خانة سياسية هنا، وأخرى اجتماعية هناك، كما كان آخرون يشعرون أن هذه المقالات مستفزة لهم غاية الاستفزاز. والآن وبعد كل هذا التطواف المتصل أشعر أن المقالات السابقة بحاجة إلى تأطير نظري متماسك يضعها في نصابها الحقيقي بعيدا عن هواجس التصنيف التي تحرك بعض القراء. وهذه مهمة ستضطلع بها المقالات المقبلة ابتداء من الأسبوع المقبل.
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1831 - الإثنين 10 سبتمبر 2007م الموافق 27 شعبان 1428هـ
اسرائيل
جيد