بكتابة هذا المقال أكون قد أتممت ألفا وأربعمئة وواحد وسبعين يوما من العلاقة الصحافية المنتظمة مع «الوسط» التي ابتدأت بالتحديد في الثلاثين من شهر سبتمبر/ أيلول من العام 2003 لم تقطعها الفيافي التي كُنت أرتحل إليها بين الفَيْنة والأخرى، فكتبتُ مرة من طهران ومشهد المقدسة وإصفهان ومرة من صلالة وأبو ظبي ودبي وأخرى من الكويت ومن عمّان ومن جنيف، بل وأحيانا ولكي لا أتأخر في إرسال المادة الصحافية إلى التحرير كنتُ أكتبها وأنا أنتظر موعد النداء الأخير لركوب الطائرة كما حدث لي ذلك في مطار الإمام الخميني العتيد وفي مطار الكويت الدولي.
قبل صدور «الوسط» كانت الحالة الصحافية شبه مُحنّطة لظروف يعلمها الجميع، وكانت تتمظهر في أشكال مُحدّدة من النُسُق السياسية والاجتماعية القائمة منذ زمن سحيق، وكانت أشكال التمرد على الواقع تتمثّل من على منابر التعبئة والتهييج والخطابة، أو على منشورات دأب على تسطير مادتها المعارضون من وراء الحدود، وكانت الأقلام غير المُهَلْهِلَة لمشروعات السلطة بالمطلق تتقيّأ على إثر سَفْقات الرقابة المهينة، ويُراق حبرها على قراطيس للحفظ وللتاريخ ليس إلاّ، وفي أحيان معينة للتنفيس كبديل أرحم من الموت قهرا. وعندما جاءت «الوسط» تحمّلت المسئولية في اجتراح فضاءات مناسبة يتمّ من خلالها إفراغ صديد ربع قرن من التأزّم السياسي، وكان عليها في سبيل ذلك أن تُوفّق في الفصل بين متطلبات الصحافة والسياسة من جهة وبين استيعاب آمال الناس ورغبتهم في الحديث المرسون وفي الكتابة المنفعلة الموتورة المطلوب تهذيبها، وكانت تلك مسئولية جسيمة استطاعت «الوسط» في سبيلها من إجراء المواءمات المطلوبة لتسكين الجراح ولتحييد القانون والعُرف الجديد.
إن إفراد ميكانيزمات عملية لواقع مختلف رِجْلُهُ على ركام تراث مقبور لا يُراد له سوى المراقبة والمعاقبة هي مهمّة حسّاسة وصعبة، فتناول قضايا الوطن من منطلق مسئولية جماعية هو غاية، وتجنب الدخول في مهاترات بيزنطية تؤدي إلى تأزيم الأمور أو التأسيس لمناخات مشحونة هو ركيزة للسلم الأهلي، والابتعاد عن امتهان الانتقائية الخبرية في تناول شئون الناس هو إنقاذ لقضايا الأمّة، وكانت «الوسط» رائدة في ذلك بل إنها ساهمت في تدعيم الاتجاه الإيجابي نحو إغناء مؤسسات المجتمع المدني والديني معا، وكرّست ديناميكيته لتحقيق أفضل توازن مجتمعي مطلوب، والمساهمة في بلورة الأفكار الضامنة للحقوق والصائنة للحريات بكسر التابوات الكارتونية المفروضة من خلال رؤية سياسية فكرية وصحافية تراعي الزمكانية وتسهم بشكل مباشر في صوغ ضمانات وعي سليم ورشيد يتصدى للمشكلات والمهمات التي يُنتجها الحِراك الاجتماعي والتدافع المضطرب. وكان ذلك مدخلا جيدا لتسمية فكر سياسي واجتماعي ديمقراطي متمدن بدلا من سيادة الأفكار التجريدية المرتكزة في زواياها الحادة على العموميات والتنظيرات الفارغة أو المستوردة .
على المستوى الشخصي فإنني لا أتذكر أن «الوسط» قد حَجَبت مقالا كنتُ قد أرسلته إليها للنشر، أو تطاولت رقابتها لتحذف جملة أو تُحوّر مطلبا يُقوّس من معنى الكلام، اللهم إلاّ تلك المتعلقة بنباهة المُصحّحين وهي نادرة نُدرة الآجام في قواحل السهوب. وعلى رغم أنني أكتبُ في شأن جدلي قيل فيه ما لم يقله مالك في الخمر إلاّ أنني وجدت «الوسط» عصيّة على أن تقول لي كفى لأن سَولَعَها قد نفذ، أو أن تُجرّب عليّ حظّ المُرجفين من الحقيقة في هذا الزمن المُر، وكل من لديه تجارب صحافية في الداخل أو الخارج سيُدرك كيف أن الحريات لدى بعض الصحف والمراكز البحثية أصبحت هبات وعطايا تحكمها المصالح السياسية والشخصية، بل إن الكثير من الصحف في عالمنا العربي بات وعيها وحسّها أدني بكثير من الوعي العام على الأرض لأن علاقتها مازالت محكومة بتوازنات السلطة التي حافظت على بقائها كمرجعية سياسية وفكرية، لذا فهي وإن جاهدت لأن تقفز إلى حيث القافلة فإنها لن تصيب باعا ولا شبرا ما دامت هي في عباءة الحكومات والأنظمة، وعبثا يحاول من يُساوي بين مصالح الناس ومصالح الحكم أو بين مسئولية النُخب وبين مسئولية الدولة في فضاء الحريات والصحافة المسئولة، وكذلك الحال مع مُحتكري المعرفة والمُتسيدين عليها ظلما ومن دون وجه حق بالتوارث أو بالإحالات القسرية.
إن الولاء للحقيقة هو المدماك الأمنع لصيانة حقوق الناس والدفاع عن مصالحهم في مواجهة غلواء النظم السياسية وإسرافها في الاستحواذ على المشاع، وتأخيرها وتقديمها للخيارات ببراغماتية غالبة، وفي الجهة المقابلة هي أيضا القوة الوحيدة القادرة على إجهاض مساعي تمكين الابتذال والقذف والتعدي على حُرُمات الناس وخصوصياتهم، والاحتماء وراء حقوق الصحافيين للإفلات من العقوبة والتجريم، وإذا كنت أملك الجرأة في قول المشاهدة دون رتوش فإنني ومن خلال سنين خلت من العلاقة المنتظمة مع «الوسط» أعترف بأني قد شهدت مساعيها لضبط الإيقاع اللازم للعض بالنواجذ على الحقيقة عبر علاقة مُفتَرَضة مع الحُكم تقوم على استيعاب توجهاته والمساحة المتاحة لمناوراته، وفي الجهة الأخرى عبر أتباع سياسة تحريرية قادرة على نفض الغبار عن ملفات حسّاسة ومسكوت عنها بتأجيل إرادي، وأيضا عبر فجائية الأسئلة المُفضية إلى المعرفة، واستثمار الصورةُ المُشَكِّلة للمفاهيم الناتجة عن التلقّي، والقادرة على اجتراح المُتخيّل، وبالتالي امتلاك التعريف البدائي للأشياء ثم تقديمه بخاتمة نظيفة قابلة للنمو والتراكم، وهي قيمة إعلامية متقدمة استطاعت «الوسط» الاحتفاظ بها أو بسقفها على أقل تقدير. إن الاحتفاظ بمسيرة صحافية إيجابية قادرة على صوغ وعي عام قد يكون أصعب من قرار تدشينها الممزوج ما بين مأمول ومعقول، لذلك فإننا جميعا نتمنى أن تحافظ «الوسط» على هذا النهج وهذا العطاء، ويُسجّل التاريخ أن هذه النافذة الإعلامية ليست كأي نافذة، وإنما هي أحد أهم مفاصل حركة الوعي الفكري والإعلامي في البحرين.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1830 - الأحد 09 سبتمبر 2007م الموافق 26 شعبان 1428هـ