من مهازل الأيام الحاضرة، أن تتخذ نتيجة مباراة في كرة القدم، مبررا لتهديد علاقات تاريخية بين دولتين هما مصر والسودان، وصفت بأنها علاقات أزلية، لأنها علاقات توائم، ربط بينهما حبل سري واحد، هو نهر النيل شريان الحياة لكليهما، فوق إرادتهما أصلا.
وقد أتت مباراة كرة القدم بين أكبر ناديين في البلدين، وأكثرها شعبية، هما الأهلي المصري والهلال السوداني، لتفتح ملفا شائكا بين البلدين، وتثير أشجانا قديمة، ترسبت في الوجدان الشعبي، مثلما ترسخت في دهاليز البيروقراطيات الحاكمة فيهما عبر العقود، وخصوصا منذ استقلال السودان عن مصر في منتصف خمسينات القرن الماضي، وتحديدا في يناير/كانون الثاني 1956.
مباراة في كرة القدم، انتهى شوطها الأول بفوز الأهلي وأنتهى شوطها الثاني بفوز الهلال، وكان من المفترض أن تمضي الأمور عادية في ظل تبادل الفوز والهزيمة، لكن المذهل أن تدفع اشتباكات انفعالية بين اللاعبين، إلى الخوض في صميم العلاقات المصرية السودانية، لتنبش في أعماقها، وتستعيد ذكريات الماضي البعيد، فتتداول الفاظ وعبارات من نوع الثأر التاريخي والموت والمقابر وهزيمة الاستعمار والنظرة الاسعلائية وكسر أنوف المستكبرين، إلى غير ذلك من عبارات، لا تنكئ جراحا قديمة فقط، ولكن تعبر أيضا عن ضيق ورفض لما آلت إليه العلاقات الأزلية من تدهور، حتى على المستوى الشعبي!
بداية أنا من أشد المؤمنين بحتمية العلاقات الأزلية هذه، وبضرورة حمايتها من عبث العابثين المحليين والخارجيين، وبضرورة تنميتها، ولكن وفق أسس راسخة تقوم على المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، بين دولتين تتجاوران في الحدود، وتتقاسمان المياه (سر الحياة)، وتتشاركان في تاريخ طويل مشترك منذ آلاف السنين، عبر حضارات فرعونية ونوبية وسودانية قديمة.
لكن الملاحظ اليوم، أن هذه العلاقات تبدو من الناحية الرسمية والإعلامية، على ما يرام، نراه عند الحد الأدنى، لكنها تتعرض بين فترة وأخرى لهزات قوية تكشف أن أساس البناء المشترك، ليس عند حده الأقصى من القوة والصلابة، الأمر الذي ينعكس مباشرة على الأحاسيس والمشاعر الشعبية والعواطف الانعفالية، كما حدث في ملابسات مباراة الأهلي والهلال في أم درمان قبل أسابيع، وتطايرت فيها الشعارات الساخنة من رؤوس ملتهبة هناك، أنعكست على رؤوس ملتهبة هنا!
والأمر يحتاج إلى كثير من المصارحة والمكاشفة، فثمة اعتقاد راسخ لدي يرى أن هذه العلاقات المصرية السودانية، التي يجب أن تكون نموذجية بين شعبين هما الأقرب جوارا وصهرا ونسبا وحياة مشتركة، ليست على ما نحب ونرجو، بل يسودها برود غير مبرر، وربما جفاء غير معلن، لأسباب كثيرة، على رغم إدراكي أن هناك من سيخرج غدا في القاهرة والخرطوم، مؤكدا عكس ذلك، منتقدا الذين يدعوه البرود والجفاء، نافيا أي توتر رسمي أو شعبي، على رغم ما حدث في ملابسات مباراة كرة القدم مثلا.
حسنا... أدعي أن الميراث التاريخي لايزال يلقي بظلاله الداكنة، منذ أن غزا الجيش المصري السودان في القرن التاسع عشر، سواء باسم مصر الخديوية، أو باسم الخلافة العثمانية، ومنذ أن تقاسمت مصر وبريطانيا السيطرة وتقسيم النفوذ هناك، وصولا لثورة يوليو/ تموز 1952، التي اتخذت قرارا تاريخيا بمنح السودان استقلاله. وهو قرار إن كان قد أسعد السودانيين، فقد أغضب مصريين كثيرين، ممن كانوا يؤمنون بأن مصر والسودان بلد واحد «أوحته واحدة»، أولئك الذين أتهموا عبدالناصر بالتخلي عن توءم الروح، تحت الضغط البريطاني الاستعماري، المدفوع بتيارات انفصالية سودانية!
وليس من عبث الأقدار، ولكن من سوء الإدارة وفشل السياسة، أن تظل العلاقات الثنائية بين دولتين مستقلتين، مصر والسودان، حبيسة نظرية سودانية تقول إن مصر مازالت تعامل السودان وفق «نظرة خديوية أي استعمارية»، بينما تقابلها نظرية مصرية أخرى، يقول طرف منها حسنا تخلصنا من عبء ثقيل، ويتحسر طرف ثان على خطيئة تخلي ثورة يوليو عن السودان بالموافقة على استقلاله، بينما طرف ثالث يلجاأ إلى اللامبالاة بكل ما يجري في جنوب الوادي.
عبث الأقدار الحقيقي، يكمن في كيف انتقلت العلاقات من النظرة الخديوية، إلى النظرة اللامبالية، من دون نضج حقيقي يجعل من هذه العلاقات نموذجا فريدا بين شقى الروح وتوأم المصير... هنا يكمن الفشل التاريخي، الذي يجعل هذه العلاقات عرضة للبرود أو الجمود أو التوتر!
ويجب أن نعترف أن البلدين يواجهان الآن مشكلات مصيرية، تحتم تعاونهما، فالسودان يعاني آثار الحرب الأهلية «العرقية والمذهبية»، ومن ثم فهو يواجه التقسيم الفعلي، الذي نراه قد أصبح واقعا، فالجنوب بعد الحروب يجري نحو الانفصال، والغرب «دارفور» في ظل ما هو حادث يتطلع للانفصال، وربما يحدث ذلك في الشرق أيضا، ليبقى القلب وحيدا محاصرا ومعزولا، ولا مخرج له إلا مصر شمالا...
ومصر هي الأخرى تعاني مشكلات كثيرة، يطل رأسها واضحا الآن، وينام جسدها في الخفاء، لكنه قادم، حيث تحيطها الحروب والصراعات الدامية من كل اتجاه، لكن التخريب في داخلها يعبث بصميم وحدتها الوطنية، تطلعا للتقسيم أيضا، ما بين دويلة للمسلمين، وثانية للمسيحيين، وثالثة للنوبيين، ورابعة للسيناويين، فإذا أضفنا لكل ذلك ضيق المساحة مع ضيق الرزق والموارد، فإن التطلع للسودان يظل هو المخرج، ليس فقط بحكم تدفق ماء النيل عبره. ولكن لأسباب إستراتيجية أخرى كثيرة يعرفها العامة والخاصة.
هنا نقول إنه من الخطأ القاتل، أن يظل الهاجس الأمني بمفهومه الضيق، مع الهاجس المائي، يسيطران على بعض صناع السياسة المصرية تجاه السودان، فالأمر أوسع وأهم، ولعل حصر العلاقات في هذا المنظور الأمني والمائي وحده، قد قيد الاستراتيجيات المصرية تجاه السودان، بقدرما شجع القوى الإقليمية والتدخلات الأجنبية، على السعي الدائم لتوتير العلاقات المصرية السودانية للفصل بينهما من ناحية، ولتمرير المخططات الغربية لتقسيم السودان، ولاستغلال ثرواته الطبيعية والمعدنية، وخصوصا النفط الواعد من ناحية أخرى، وهو أمر صادف هوى بعض التيارات والقوى السياسية السودانية، فمالت إلى الغرب وتعمدت الابتعاد عن مصر، بل وكراهيتها.
ولقد انعكس ذلك كله، القصور المصري والتباعد السوداني، أي الإهمال المتبادل، على المخططات الأخيرة لتحديد مستقبل السودان، ما بين الوحدة والانفصال، فقد وضح تهميش الدور المصري، بل والدور العربي كله، خلال محادثات إنهاء الصراع المسلح في جنوب السودان، وصولا إلى اتفاق «نفاشا» الشهير في 2005، مثلما وضح فيما بعد في اتفاق «أبوجا» الخاص بمشكلة دارفور في 2006 والمحادثات الجارية بشأن المشكلة حتى الآن.
ومقابل ذلك جرى تفعيل وتقوية دول الجوار خصوصا إثيوبيا وكينيا وأوغندا وكذلك نيجيريا، إضافة إلى امتلاك الاتحاد الإفريقي زمام القيادة، في غيبة حقيقية للجامعة العربية، اللهم إلا حضور حفلات التوقيع، ولم يكن ذلك ليتم إلا بموافقة حقيقية على الأقل من جانب الطرف الأصيل وهو السودان، تعبيرا عن تجاهل الدور المصري والعربي، أو عن إهمالهما السابق للشأن السوداني!
وإن دل ذلك كله على شيء فهو يدل على عدم سلامه وصحة العلاقات خصوصا بين مصر والسودان، وتجاهلما المشترك لطبيعة العلاقات الاستراتيجية، وهي العلاقات التي يصفها المأثور الشعبي بالآزلية، فكيف تكون أزلية والمصائر تحدد في ملاعب خارجية، وبأقدام وأفكار وأفعال أجنبية!
الآن... مصر والسودان، تواجهان تحديات المستقبل العصيبة، ولا مفر أمامهما سوى إعادة صوغ علاقاتهما «الأزلية» وفق نظرة ورؤية استراتيجية جديدة، تتخلص من موروثات الماضي، وتتطلع إلى المستقبل بما فيه من مصالح مشتركة ومنافع متبادلة.
مصر في حاجة قصوى للسودان منفذها إلى قلب إفريقيا، ومصدر مائها وريها روح الحياة، تفضله موحدا، ولكن إذا ما جرى خط التقسيم، فإن صعوبات قاسية ستواجهها استرتيجيا وأمنيا ومائيا وبشريا.
والسودان في حاجة إلى مصر غدا أكثر من أمس واليوم، خصوصا إذا تم تقسيمه وتحقق مخطط الانفصال المرسوم، جنوبا وغربا وشرقا، ليظل القلب محاصرا لا مخرج له إلا مصر شمالا.
هذا هو التحدي... كيف تستعيد التوائم لحمة الجسد والعقل والروح، بمنطق المصالح المشتركة، وليس بلهيب العواطف والمشاعر الساخنة، والإهمال والإهمال المتبادل، الذي لم يفرز إلا الخيبة والحسرة!
وهنا ننادى بدور جديد للقوى الشعبية والتيارات السياسية والفكرية العاقلة، لتبادر بإعادة النظر في الأمر، وبوضع تصور جديد لعلاقات مشتركة سوية ومتكافئة، طالما أن حكوماتنا فشلت في ذلك وأسلمت القياد للآخرين.
خير الكلام
يقول البارودي:
فهل من فتى في الدهر يجمع بيننا
فليس كلانا عن أخيه بمستغنى
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1825 - الثلثاء 04 سبتمبر 2007م الموافق 21 شعبان 1428هـ