على رغم أن المراقب للحدث التركي الكبير منذ مدة يلحظ بوضوح تراجع دور العسكر في هذا البلد التاريخي العريق رغما عن أنفه وتقدم تيار أنصار الهويات المدنية والشعبية المدنية بالمقابل ممن يحسبون على الإسلاميين بشكل عام.
ويكاد الأمر نفسه يحصل قريبا أو يقترب من ملامسة الحقيقة نفسها المشار إليها، على التراب الباكستاني أيضا مع اختلاف الظروف والحيثيات.
وهو الأمر الذي تعيش مخاضاته أكثر من عاصمة عربية أو إسلامية إذا ما تابعنا مجموع التطورات المتلاحقة بتأمل وتأن عميقين.
ولكنني مع ذلك وأنا أتابع تطورات الحوادث العامة من زاوية أخرى في أمصار بلادي من الوطن العربي الكبير والعالم الإسلامي الأكبر من طنجة إلى جاكرتا، نعم «بلادي» في هذا «العالم الإسلامي» لمن قد يكون مستغربا وهو يقرأ مثل هذه اللغة في هذه الأيام الغريبة على الأمة وهي تلحظ تململات جنرالاتها اللابسين للملابس العسكرية منهم و»المدنيين» على حد سواء ومعهم عساكر الخارج من النوعين أيضا وهم يتباكون على الديمقراطية مرة والحريات مرة أخرى وعلى «حقوق الإنسان» دوما! وأخيرا وليس آخرا على العلمانية والنظام العلماني وعملية «الشرق الأوسط» الموهومة والمصطنعة! لا يسعني هنا إلا أن أستذكر ذلك القول الشهير لأحدهم إذ قال: «إذا رأيت الحكام على أبواب العلماء فقل نعم الحكام ونعم العلماء، وإذا رأيت العلماء على أبواب الحكام فقل بئس الحكام وبئس العلماء»!
والمعنيون اليوم بهذا القول أكثر من غيرهم هم تلك الفئة البائسة من المثقفين الذين يطلق عليهم تعديا وتجاوزا بـ «النخبة» والتي لا همّ ولا غمّ لها إلا الاعتداء على مشاعر جمهور الأمة في كل شيء وفي كل باب وعلى كل المستويات ولا يراعون في ذلك تلك الكتل الجماهيرية الكبرى من الناس لا في مشاعرهم ولا في أحاسيسهم ولا في معتقداتهم. بعد أن أصبح المهم لديهم مراعاة ذلك الحاكم الظالم لشعبه أو المستبد برأيه ومداراته وتسويق حاجاته في سوق البيع والشراء لأسهم البورصة أو سوق النفط العالمي أو سوق النفايات من الفن الهابط والمفاهيم والمقولات التافهة في فضائيات «ستار أكاديمي» والخلع لكل أشكال الهوية الثقافية والدينية المحلية والوطنية واستبدالها بهويات عولمية «راقية وتقدمية» ومن ثم الضرب «من تحت الزنار» كما يقال لكل من أو ما يرمز لهذه الأمة، نعم الأمة بكل ما تعني كلمة الأمة في ضمير ووجدان الناس من الكتل الجماهيرية الكبرى وتحطيم صورة المقدس في المشهد العام بحجة أن لا مقدس في عالم الواقعية السياسية والفكرية الجديد الذي يلف العالم المعاصر! لكن سرعان ما يتم استبداله بكل ما هو قادم من الخارج المعولم بحجة أنه البديل الواقعي والوحيد المتاح! ويصبح هو المقدس الذي لا يقبل النقد ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والعياذ بالله!
وإلا ما معنى أن تصبح قضية فلسطين بنظر هؤلاء بين ليلة وضحاها هامشية وطوباوية ومعكرة للمزاج التصالحي الشرق أوسطي؟!
أو ما معنى أن تصبح الوحدة العربية والفكر العروبي حلم رجعي يعكر المزاج السياسي العام لمدرسة الحداثة والعلمانية التقدمية التي ترفض التقوقع على الذات؟!
أو ما معنى الترويج بأن «عالم القيم الدينية والأعراف والتقاليد والتراث» هو عالم لا يصلح لزماننا الراهن الذي تجاوز عصر الايديولوجيات؟!
أليس هذا مقدمة يراد من ورائها تهيئة الأجواء لضرب فكر المقاومة والممانعة ومن ثم تشويه صورة المقاومين والممانعين في أعين العامة من الناس وإظهارهم وكأنهم هم العقبة أمام تقدم هذه الأمة؟!
ومن ثم تصبح هذه «النخبة» من بطانة الحاكم المستبد والظالم هي العربة التي يراد بها أن تعيد العسكر إلى سابق مجده!
ومن ثم يصبح السيد حسن نصرالله هو العقبة أمام الحل الداخلي اللبناني وهو من يصادر قراره وتصوروا لصالح من؟! لصالح دمشق وطهران كما يروجون صباح مساء! من أجل حرف الأنظار عن حقيقة من يمعنون يوميا في مصادرة قراره لصالح أميركا وسائر القوى العظمى المنحازة لـ «إسرائيل» وأن عليه - أي نصرالله - أن يعيده إلى أهله! ومنذ متى أصبح الشاميون العرب الأقحاح والمسلمون الإيرانيون العائدون إلى هويتهم الحضارية المشتركة مع العرب أغرابا يعرضون استقلال لبنان للخطر وينزعون المواطنة والوطنية عن كل من يتضامنون معه، فيما يصبح الأجنبي المستعمر القادم من وراء البحار هوالذي يوزع شهادات الوطنية والمواطنة ويصبح المجتمعون تحت راية كوندوليزا رايس في عوكر أثناء قصف القنابل الذكية الأميركية للبيوت اللبنانية وهي «تتألم» من أجل ولادة شرق أوسط جديد من خلال بقر بطون الأمهات الشهيدات في قانا، هم السياديون والاستقلاليون واللبنانيون الحقيقيون؟!
وحتى تكتمل الصورة المدهشة واللوحة «البديعة» فلابد من تشويه صورة البلد العربي العريق والممانع والمتصدي لمحاولات زرع الشقاق والنفاق بين الأقوام والأعراق والطوائف والمذاهب مبكرا عندما أدان الحرب الصدامية على الإيرانيين ليصور اليوم بأنه الأداة الطيّعة بيد الإيرانيين وأنه المرتهنة إرادته لهم على حساب إرادة العرب! ومن ثم يصبح الإيرانيون هم الخطر الحقيقي الذي يهدد الأمة العربية والأمن القومي العربي وهم المخربون لعملية المزاج التصالحي الشرق أوسطي مع الدولة العبرية التي جنحت للسلام ولاتزال لولا هذا التحالف الشرير من غزة إلى بيروت إلى دمشق وصولا إلى طهران التي يصفها المحافظون الجدد اليوم بكل صلافة بأنها المصرف المركزي للإرهاب ورأس الحية في المنطقة!
ومن ثم يصبح الحماسيون والجهاديون والفتحاويون الشرفاء مجرد أدوات أولئك الذين يهددون الأمن القومي العربي و»عملاء» ليس أكثر لإيران! ومن بعد ذلك يتحفك أولئك «النخبة» بمزيد من «التحشيش الفكري» الخبيث عندما يقولون لك وما معنى أن تتضامن إيران أو غير إيران مع قضية «أكل الدهر عليها وشرب»! وما دخل إيران وغير إيران من الأغراب أصلا في قضية هي ملك الفلسطينيين وهم أحرار في التصرف بها، وهل تريد إيران أو غير إيران أن تكون ملكية أكثر من الملك نفسه كما يقول المثل؟!
وهكذا يصبح أحمدي نجاد رجل طوباوي و»مجنون» وخطر يهدد الأمن الدولي! لأنه يناقش المسألة اليهودية ويطالب الأوروبيين في إيجاد الحل لها على أرضهم وليس على أراضي وحساب الغير ويتهم بأنه يريد شطب دولة من الخريطة في الوقت الذي قاموا هم بارتكاب جريمة العصر بشطبهم شعبا وأمة من الخريطة منذ ما يزيد على نصف قرن بطريقة حرب الإبادة الشاملة ولايزالون مصرين على الاستمرار في فعلتهم النكراء.
وعندما يريد أن يتصدى لهم نصرالله وأمثال نصرالله من العرب والمسلمين يصبحون هم المعتدين وهم الأغراب وهم الطارئين، ومن قبل من؟ من قبل أناس من أبناء جلدتنا باسم التقدمية والعالم الحر والمتمدن! ممن يحسبون على «النخبة» زورا وبهتانا ومن ثم لتصل الوقاحة لدى البعض من المتصدين لقضايا حقوق الإنسان العالمي من حواريي «النخبة» المشار إليها ليبعث فريقا منه إلى بيروت عاصمة الوفاء للمقاومة والمقاومين ليعقد مؤتمرا صحافيا يراد منه إدانة المقاومة ويطالب بالتحقيق مع شخصيات من حزب الله لأنهم اعتدوا على إسرائيليين وتسببوا في إيذائهم! والله صدق المثل القائل «اللي استحوا ماتوا» وفهمكم كفاية!
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 1822 - السبت 01 سبتمبر 2007م الموافق 18 شعبان 1428هـ