«أنْ ترحل»، يعني أن تغترب، أن تكون لاجئا متشردا في ديار خارج وطنك، أن ترحل يعني أن تعيش على مرمى حجر من مأساة اللاجئين الفلسطينيين المبعثرين بين منافي الشتات وفي المخيمات منذ ما اغتصبت فلسطين، هي أن تتمثل مأساة العراقيين منذ احتلال العراق وتناثر أهله بالملايين مشردين بين سورية والأردن وأميركا واستراليا ودول أوروبا، هي أن تتحسس مأساة اللبنانيين الذين هجروا لبنان منذ الحرب الأهلية في 1975 وبعدها حرب يوليو/ تموز 2006، هي أن تتجسّد أمامك مآسي السودانيين والجزائريين والمغاربة وغيرهم من العرب، وأخيرا أن تستحضر ضميرك وأنت تقرأ بتمعّن الخبر الوارد من موقع «العربية نت» بتاريخ 20 أغسطس/آب 2007، تحت عنوان: «الفقر، والبطالة وراء موسم هجرتهم إلى الشمال: بحرينيون يقبلون على الهجرة هربا من لقب «هنود الخليج»، تفاصيل الخبر تفيد بأن وراء ذلك تزايد أعداد الأجانب «40 في المئة من عدد السكان» ومزاحمتهم للمواطنين وقلة فرص العمل وتردي الأوضاع المعيشية وانخفاض الأجور وارتفاع حالات التجنيس.
إذن هي بالتمام الكارثة التي تساءل بشأنها كاتب عربي قائلا: لماذا بات العرب أمة لاجئين أو مهاجرين على هذا النحو؟ فأجاب على سؤاله باقتضاب: إنها الحروب والفقر والاكتئاب والقنوط واليأس!
حروب وفقر واكتئاب وقنوط ويأس
«أنْ ترحل»، هي الرواية الأخيرة أيضا الصادرة في العام 2007، للمغربي «الطّاهر بنْجَلّون»، الرواية التي لم تغب بعيدا عن مأساة الهجرات وتفاصيلها، فالكاتب وكما اعتاد يغوص في قاع المجتمع ولزوجته فيصور عبر رحلات عبوره أوضاع العامة ومعاناتهم مع العوز والفاقة والتمييز والفساد.
«أن ترحل»، مشهد ينطق من «طنجة» المدينة الواقعة على حافة المحيط الأطلسي والبحر المتوسط، تلك التي من شواطئها يرى المغاربة إسبانيا، بيد أن الإسبان كما يعبر الكاتب لا يرون المغاربة من خلالها، بل لا يبالون بهم ولا ما يعنيهم. طنجة التي يقطن أهلها بين الجدران المتصدعة وفي بيوت الصفيح الدبقة، بين البؤس الذي ينهش أجسادهم ويعشش في حكاياتهم الغريبة المتحركة بين الصفحات ليصل بنا حد السحر والخيال، حد الوجع والبكاء والاشمئزاز، حد أن ترى المنامة من مرآة طنجة. يكتب بنجلون: «... في طنجة، يتحول مقهى الحافة خلال فصل الشتاء إلى مرصد للأحلام وتبعاتها»، وأقول: في المنامة مدينة التناقضات، تتحول الدمعة الحبيسة إلى حجر حاد كالنصل يثقب الأحشاء!
على وقع حوادث الحكاية المتشابكة حد التعقيد، يندس الكاتب إلى ضمائرنا ويهزها، يتسلل إلى جوفنا، يعلق بجلودنا من خلال مشاهد حية مرئية ومحسوسة ومتنقلة لأبطاله الذين يتولاهم كل الرعاية ويمنحهم فرصة للحياة، يسلط الضوء باتجاههم ويفسح لهم دورا وفسحة ليتحدثوا عن الملهاة والألم والمأساة التي يعيشها المرء في مجتمعاتنا بعد فقدان الكرامة، يسكنهم في ذاكراتنا وعقولنا وقلوبنا، يجعل منهم أحياء يتحركون ويصرخون في وجوهنا بمعاناة الفقر والحاجة التي يضجون بها لدرجة الاكتئاب واليأس، حتى وإن قرر بقسوة في نهاية الأمر أن يحمل بعضهم على مركب ويبحر فيهم في رحلة اللاعودة على الورق، رحلة النفي والموت. فكل واحد منهم يجسّد قضية وحالة عربية مستعصية دامية تفرز القيح وتبرز القبح المسكوت عنه في المجتمعات العربية.
تلتقي شخوص «بنجلون» وبوتيرة متواصلة في نفق ملاذهم في أحلام اليقظة سعيا وراء السراب وبأي وسيلة وتبرير، يحومون حول قضية مشتركة هي الرحيل وهجرة وطن لفضهم وتنكر لوجودهم ومحبتهم وتعلقهم به، يكتب: «... آخرون يجلسون على حصر ساندين ظهورهم إلى الجدار، وعيونهم شاخصة نحو الأفق كأنهم يقلبون الأفق بحثا عن أقدارهم. يتطلعون إلى البحر إلى الغيوم التي تختلط بالجبال، منتظرين تلألؤ الأنوار الأولى من جهة إسبانيا»! إنه يصور من خلالهم الفساد بكل تلاوينه والبطالة والفراغ الذي يدفع الشباب إلى الهجرة، ويفضح الزيف والرياء والأقنعة التي تحتجب خلف الدين والخداع التي يرتديه الناس تزلفا للحاكم، والحالة الكارتونية التي يعيشونها من وراء تلك الأغشية.
هوس الهجرة
«بنجلون» يستحضر «هوس الهجرة» الذي يؤدي إلى تكدس المغاربة البائسين العابرين إلى إسبانيا في مراكب قديمة غير صالحة للملاحة، مراكب يديرها السماسرة المحتالون والمخبرون ورجال شرطة فاسدين يتعاملون معهم ويتسلمون الرشاوى، حيث يؤول مصيرهم إلى جثث عارية مقطعة الأوصال بعد أن التهمتها أسماك القرش، أو منتفخة لفظتها مياه البحر بعد أن شوهت وجوهها بفعل الملح والانتظار، إنها رائحة الموت الخانقة التي اختلطت بالتهريب وتدخين الكيف والفقر الملازم لظاهرة «البغي» التي تحولت في مجتمعاتنا إلى ممارسة عادية تلقى قبولا متزايدا، إذ جسدها بصورة مفجعة ومفزعة في شخصية «عازل» وهو كنية عن اسم «عز العرب» الذي على رغم تعلمه وحصوله على شهادة القانون، فهو متراخ وكسول ويحب الكسب السهل الذي دفعه تحت وطأة العوز والبطالة للعمل «كبغي» عند العجوز الإسباني الثري «مكيال» ومن ثم تحوله بعد الرحيل إلى إسبانيا إلى مخبر عند شرطتهم على «الأخوان المسلمين» ليذبح في نهاية الأمر كما الشاة على أيديهم. «عازل» الذي اشتكى في بدايات حلمه وباح بآماله «... في هذا البلد، كل شيء مزيف، وكل الناس يتدبرون أمورهم كيفما اتفق، وأنا أرفض أن أكون مثلهم، لقد درست الحقوق في بلد يجهل الحقوق متظاهرا بفرض احترام القوانين، هراء هنا عليك أن تحترم المتنفذين، لا أكثر، فيما تبقى سيكون عليك أن تتدبر شؤونك بنفسك...».
«بنجلون» في السياق يتناول ظاهرة «الغلمان» فيقترب بإصرار شديد من المناطق المحظورة التي ارتادها زميله الروائي المغربي «محمد شكري» في روايته الشهيرة المثيرة للجدل «الخبز الحافي»، فيبوح ويفضح المسكوت عنه، ويزيد من رفع الغطاء عاليا كاشفا عن مكامن أكثر خطورة وعمقا وحجبا في جوف الإنسان نفسه وليس في النظام السياسي أو الاجتماعي فقط، يفضح التواطؤ بأشكاله حتى بين الإنسان وذاته، فهناك الغرائز المكبوتة وهناك ازدواجية الرغبات وهناك سطوة التداخل بين ثقافتنا وثقافات الآخرين، هناك الاختلاف والعنصرية بكل أشكالها، والنرجسية والزيف والنفاق الذي يغلف أفعالنا والكسل واللامبالاة واليأس والتبرير الذي يقع في فريسته المرء، كل ذلك يعبر عنه عازل: «أخجل من نفسي، لست فخورا بما أنا عليه،..آه يا بلدي العزيز، لو أنك ترى ما آلت إليه حالي! لا أكف عن اختلاق أعذار، والبحث عن تسويات لأبرّر نفسي. أغمض عيني كلما لمسني ميكال، أغيب عني، أترك له جسدي، أذهب في نزهة، أتظاهر، أتصنع، ثم أستيقظ، أنهض وأحاول عبثا أن أنظر إلى وجهي في المرآة. كم هوعظيٌم عاري، آه لو كانت أمي تعلم بحالي، كيف لي أن أقول لها إن ابنها رجل يستلقي انبطاحا، مومسا رخيصة، خائنا، مرتدا عن هويته وجنسه؟ لابد أنها فهمت كل شيء من تلقائها فالفطنة لا تعوزها. ابنها رجلٌ رجلٌ، يضاجع امرأة، يضاجع رجلا. مثل هذه الأمور لا يبُاح بها».
ترى، هل صار «عازل» المتعلم والمثقف والعاطل عن العمل وفاقد الهوية والضائع المتردد والكسول المتراخي...الخ، ظاهرة ملازمة للفساد والبطالة في مجتمعاتنا العربية؟ أرجو ألا يكون الأمر كذلك!
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 1815 - السبت 25 أغسطس 2007م الموافق 11 شعبان 1428هـ