على رغم مرور بعض الوقت على المحاضرة القيمة ذات الأهمية الكبيرة التي ألقاها الكاتب والسياسي الكويتي الأستاذ أحمد الديين في البحرين (أبريل/ نيسان 2007) بعنوان «أزمة استحقاقي الإصلاح والتنمية في دول مجلس التعاون»، إلا أننا نحسب أن ما طرحه الديين وارد تماما في تشخيص الحالة الخليجية عموما والبحرينية خصوصا اليوم وغدا وبعد غد.
طرح أحمد الديين استحقاقين يواجهان الأنظمة الخليجية نوافقه الرأي تماما بعدم جواز الاستخفاف بهما ومحاولة التهرب منهما. الاستحقاق الأول هو الإصلاح السياسي الذي يراه الديين في ضرورة تمكين شعوب المنطقة من المشاركة في إدارة شئون دولها، وتوسيع الهامش النسبي للحريات السياسية فيها، والحد من نهج الانفراد بالسلطة، والتخلي عن الأساليب البالية في إدارة الشأن العام، وتعزيز الشرعية التاريخية التقليدية لأنظمة الحكم بشرعية دستورية متوافق عليها. والاستحقاق الثاني هو استحقاق التنمية التي يعتبرها الديين قضية حياة أو موت بالنسبة إلى البلدان الخليجية خصوصا كونها بلدان يعتمد وجودها واقتصادها على الريع المتأتي من المورد النفطي المعرّض للنضوب ومتذبذب الأسعار.
متوسلين طروحات الكاتب أحمد الديين ندنو من الحالة البحرينية لنقف على ما يأتي: الإصلاح السياسي لم يزل يراوح مكانه بانتظار خطوات تالية، لم نزل بحاجة لسلطة تشريعية فاعلة ومنجزة. الإشكالات المجتمعية لا تنتهي بوصول ممثلي الشعب لقبة البرلمان، ولن تَجد هذه الإشكالات طريقها لحلول ناجعة إلا بتمكن النواب من الإنجاز الملموس. اليوم نحن في الفصل التشريعي الثاني والمجلس لم يتمكن بعد من تفعيل حقيقي لدوره التشريعي والرقابي. ولا يمكننا أن نقول إنه تقصير من نواب الشعب فالكثير منهم يجتهد ويبذل ما بوسعه، لكن دائرة القيود المحيطة بالنواب متمثلة في بعض النصوص الدستورية وبعض مواد اللائحة الداخلية للمجلس تجعل المهمات التشريعية والرقابية تُجهَض عن حد معين وتترك ممثلي الشعب يدورون في حلقة مفرغة لا طائل من ورائها. جدة التجربة والفترة الزمنية المبكرة تجعل الجميع في حالة انتظار وتوقع الانجاز، فإن لم يأت في هذا الفصل التشريعي فقد يأتي في الذي يليه. إلا أن تتابع الفصول التشريعية واستمرار الدوران في الحلقة المفرغة من دون إنجاز، سيثبت لجميع المواطنين أن لا طائل من عملية ديمقراطية شكلية غير منجزة، وسيؤكد ما ذهب إليه الديين أن همّ صاحب القرار هو ترسيخ النظام الحاكم وتمكينه «مشروع الحكم»، على حساب بناء دولة ديمقراطية حديثة «مشروع الدولة».
ولذلك تداعياته الحتمية الغير مرغوب فيها من أي طرف كان في مجتمع تواجه التنمية الشاملة فيه معوقات وصعوبات جمّة قد تتضاعف أو حتى قد تعود بما أنجز خطوات للوراء. والتنمية هي الاستحقاق الآخر الذي أكد الديين على ضرورة عدم التغاضي عنه. ونقول إن البحرين الأقل حظا - بين دول مجلس التعاون - في ثروتها ومخزونها النفطي، تعاني من جميع الاختلالات الاقتصادية التي تمر بها دول الخليج الأغنى كما أوضحها الديين من ارتفاع في حجم الإنفاق وارتفاع معدلات واردات السلع والخدمات واختلال تركيبة القوى العاملة واختلال التركيبة السكانية والاختلال الناجم عن الطبيعة الريعية للاقتصاد. وذلك - برأينا - يضاعف العبء المتطلب على البحرين لإنجاز خطوات تنموية ناجحة.
يُرجع الكاتب الاختلالات المذكورة لانعدام عامل التخطيط التنموي وعدم ايلائه الاهتمام المفترض. في هذا الجانب ربما تكون البحرين قد خطت قبل غيرها نحو اقتصادات بديلة إلا أن معوقات الإنجاز والتطور تركزت في افتقاد التخطيط الشامل للتنمية الاقتصادية مقرونا بافتقاد التخطيط التنسيقي مع دول مجلس التعاون. هذا بالإضافة لآفة الفساد وسرقة المال العام التي ابتلي بها المجتمع والتي شكلت وتشكل العائق الأكبر أمام نجاح خطط التنمية الاقتصادية.
وإذا صح تركيز التوجه الرسمي للإصلاح في المجتمع البحريني على مشروع الحكم على حساب مشروع الدولة وهو ما يعتبره المحاضر عائق الإصلاح والتنمية الأول، يصح إذا العائق الثاني الذي أورده متمثلا في الطابع الريعي للاقتصاد. فلهذا الطابع الاقتصادي مظاهره من انفراد الجهة الرسمية بإدارة المجتمع والهيمنة على المورد الاقتصادي وتقديم الجزء المقرر من العائد القومي على شكل خدمات ورواتب وهبات ومكرمات. ولذلك انعكاساته السلبية على العملية الإصلاحية فاختلال ميزان القوى المجتمعية يوصل لاختلال أهم مظاهر الإصلاح السياسي ألا وهو تمكين الشعب من إدارة شئون وطنه.
وفي البحرين فمن الملموس توظيف العائق الثالث الذي تحدث عنه الديين وهو التخلف الاجتماعي والثقافي لإعاقة الاندماج الوطني من أجل الإصلاح والتنمية. في مجتمعنا تجري عملية محمومة لتكريس الاستقطابات والولاءات الطائفية منذ أن سمح النظام الرسمي بقيام جمعيات سياسية ذات سمة طائفية. وبإمكان النظام الرسمي - لو شاء - وضع حد لهذه الفوضى الطائفية بل واجتثاثها إلى غير رجعة. إن تفاقم الانحيازات الطائفية قد ينزلق بالمجتمع لما لا تحمد عقباه وما لا يتوقعه النظام الرسمي على رغم حرصه الملحوظ على التدخل لضبط إيقاع المعزوفة الطائفية على مستويات لا تتجاوز الجرعات المطلوبة.
طابع الاقتصاد الريعي في مجتمعنا يبرز اختلال ميزان القوى لصالح الجهة الرسمية على حساب القوى السياسية الوطنية. وذلك هو العائق الرابع الذي تحدث عنه الديين ويتمثل فيما تعانيه القوى السياسية الوطنية في المجتمع البحريني من ضعف وتواضع أداء وقلة تأثير في صنع الحدث. أضف إلى ذلك عدم قدرة هذه القوى على بلورة برنامج الحد الأدنى المشترك للإصلاح والتنمية بل واختلافها بشأن الأولويات ما يولّد التناقضات والخلافات.
وعلى رغم قتامة الواقع الخليجي إلا أن المحاضر يتسلح بتفاؤل ضروري يميز قراءته فيختمها باقتراح عملي هو دعوة للتفكير والتفاكر بشأن محورين مهمين ينطبقان أكثر ما ينطبقان على الحالة البحرينية. الأول يرنو لبلوغ تسوية تاريخية تحقق التوافق بين مشروع الحكم ومشروع بناء الدولة الحديثة. وهي مهمة منوطة - في الحالة البحرينية - بالسلطة الرسمية. لقد كانت فلسفة ومبادئ ميثاق العمل الوطني تذهب باتجاه تمكين الشعب من المشاركة الديمقراطية في إدارة شئون وطنه، وتؤكد في الوقت ذاته الشرعية التاريخية لحكم آل خليفة للبحرين وتوارثهم عرش حكمها. اليوم اختل المسار المتزامن لمتطلبات الحكم ومتطلبات الدولة، فالنظام الرسمي مدعو للمضي خطوات أبعد في بناء الدولة الديمقراطية الحديثة وتحديدا مدعو لإزالة العقبات التي تحول دون قيام نواب الشعب بمهماتهم التشريعية والرقابية على أكمل وجه.
أما المحور الثاني فيتعلق بمهمة منوط بها مثلث القوى السياسية الموجودة على الساحة البحرينية بأضلاعه الثلاثة: الحكم، التيار الوطني والتيار الإسلامي. وهي مهمة التوجه نحو التوافق على خط وطني مشترك للإصلاح والتنمية. كل طرف من هؤلاء يتحمل مسئولية تاريخية أمام هذا المجتمع في أن يتقدم ويبادر لمد الجسور وفتح القنوات باتجاه التوافق. أما التراخي في مهمة تاريخية كهذه فمعناه تفاقم لاحق لسوء الأوضاع مرشح لأن يمس السلم المجتمعي ويفرغ ما أنجز على طريق الإصلاح والتنمية من محتواه.
إقرأ أيضا لـ "فوزية مطر"العدد 1814 - الجمعة 24 أغسطس 2007م الموافق 10 شعبان 1428هـ