حين كان قوميو الخمسينات يعلنون خوفهم من تحوّل «البحرينيين الحقيقيين» إلى أقلية، فإنهم كانوا يعبّرون عن الأصل الذي يعتقدون أنه الأساس الجوهري الذي ينبغي أن تقوم عليه هوية «البحرينيين الحقيقيين» وهو العروبة والانتماء إلى الأمة العربية؛ ومن هنا كان توافد الإيرانيين والهنود والبلوش هو السبب في الخوف الذي دبّ في نفوس هؤلاء. ومن المؤكد أن هؤلاء لم يكونوا يخافون من حصول الإيرانيين والهنود والبلوش على الجنسية البحرينية، لأن الرغبة في هذا النوع من الانتماء (الجنسية) لم تكن جدية، كما لم يكن هذا الانتماء مربحا قبل الطفرة النفطية في السبعينات. ومن هنا فإن خوف القوميين إنما كان بسبب توافد الإيرانيين والهنود والبلوش بكثرة، وما يمثله هذا التوافد من تزاحم في المكان قد يهدد هوية «البحرينيين الحقيقيين». إلا أن متغيرات كثيرة استجدت وجعلت «المواطنة» هي الأساس في تحديد هوية الأفراد، وأصبح الحصول على المواطنة عبر الجنسية هو عنوان الانتماء إلى الدولة، وبهذا يصبح «البحرينيون الحقيقيون» هم المواطنون الذين يتمتعون بجنسية دولة اسمها البحرين سواء كانوا عربا أقحاحا أو من أصول إيرانية أو هندية أو بلوشية أو غيرها. والحصيلة من كل هذه المتغيرات أن الهوية أصبحت كيانا مرنا - كيلا نقول هشّا - يمكن الدخول إليه والانفصال عنه. وفي الوقت ذاته أصبح التمتع بجنسية الدولة مربحا ويمنح صاحبها امتيازات قد يخسرها إذا بقي مصنفا كأجنبي أو مقيم أو وافد. وحين أصبحت الهوية مرنة ومربحة إلى هذا الحد أعلن الخوف الشيعي عن نفسه وخرج من سباته الذي لم يدم طويلا، وحلّ بذلك محل الخوف القومي الخمسيني.
يعبّر موقف القوميين الخمسينيين عن مشاعر الخوف من الأجانب أو حتى كراهيتهم والعداوة تجاههم، وهو ما يسمى اصطلاحا بـ «رُهاب الأجانب Xenophobia». وهذا مرض لم يسلم منه شيعة البحرين في السنوات الخمس الأخيرة. وإذا كان هذا الرهاب موجها عند قوميي الخمسينات ضد الإيرانيين والهنود والبلوش، فإنه يوجّه عند الشيعة اليوم ضد فئة «المجنسين».
وعادة ما يفتقر هذا النوع من الرهاب إلى التفسير العقلاني، فهو شعور مرضي لا يحتكم إلى العقل والمنطق، ولهذا يكون تفسيره صعبا. ومع هذا فإن فهم هذا الرهاب على أساس عقلاني ليس مستحيلا. ففي الحالة الأولى كان رهاب القوميين من الإيرانيين يعبّر عن مشاعر الخوف والامتعاض التي تتجدد مع كل مطالبة إيرانية بتبعية البحرين إلى إيران. فيما يعبّر الموقف السلبي من البلوش عن موقف سياسي يخلط، عن غير قصد، بين البلوش والبنجابيين الباكستانيين. وقد كانت معظم تيارات المعارضة تتصوّر أن معظم البلوش يتركّزون في وظائف الأمن الداخلي، وتحديدا في قوات مكافحة الشغب، الأمر الذي يجعلهم في مواجهة مباشرة مع تحركات المعارضة القومية واليسارية والشيعية، في حين أن القوميين يعرفون جيدا أن البلوش هم من أكثر فئات الوافدين اندماجا في عروبة المجتمع البحريني، كما يتذكر معتقلو اليسار مواقف الشرطة البلوش المتعاطفين معهم في معتقلاتهم، والذين كان بعضهم ينتمي أو يتعاطف مع جبهات التحرير اليسارية في بلوشستان. أما الخوف من الهنود فإنه يعبّر عن الاعتراض على المعاملة الخاصة التي حظي بها هؤلاء من قبل الإنجليز إبان سنوات الحماية، وهي معاملة سمحت لهم بالحصول على أفضل الوظائف والترقيات والامتيازات في مواقع العمل آنذاك، وفي شركة نفط البحرين على وجه الخصوص، يقول كاتب المقال: «إننا إزاء أزمة قوية نعاني منها الأمرين، من حيث زيادة الأجور في السكن، وزيادة تكاليف المعيشة»، وأن ما يجري يستهدف الطبقة الفقيرة والمتوسطة، وتحديدا يستهدف «القضاء على أي حركة عمالية يقوم بها الوطنيون الذين يطالبون برفع أجورهم، وتحسين أحوالهم. فإذا تحرّك العمال الوطنيون أقيلوا من أعمالهم وعين هؤلاء الدخلاء محلهم» (مجلة صوت البحرين، ع:5، 1953، ص37). وبهذا يتكشّف أننا أمام خوف من هؤلاء الدخلاء المنافسين.
أما الخوف الشيعي فإنه يعبّر عن مشاعر متداخلة ومعقدة. إلا أن تجليه الأبرز يظهر في مشاعر الخوف التي تنتاب الشيعة من تحولهم إلى أقلية، ومن تضاؤل محتمل قد يطال حصتهم في الخدمات والسلع والمنافع العامة داخل الدولة. وبهذا المعنى فإن «رهاب الأجانب»، في الحالتين، إنما يعبّر عن رهاب من نوع آخر سنطلق عليه هنا «رهاب المنافسين» أي أنه خوف مَرَضي يصل حد الكراهية لكل منافس محتمل سيدخل على خط المنافسة على الخدمات والسلع والمنافع العامة في مجال الصحة والتعليم والعمل والأمن والإسكان والترفيه. وتزداد حدة الخوف والكراهية إذا كانت هذه المنافع محدودة ونادرة أساسا، والأمر كذلك إذا كان نظام توزيع هذه المنافع مختلا ويفتقر إلى التوازن والعدل. كما تتوقف حدة هذا الرهاب على حجم المنافسة وعلى قدرة الجماعة على الصمود أمام شدة المنافسة. والخلاصة أن «رهاب الأجانب» إنما «يلقى الدعم والرعاية من قبل الجماعات القومية والعرقية (والطائفية) العاجزة عن الصمود أمام شدة المنافسة» (القومية والعقلانية، ص197)، أما الجماعات القادرة على الصمود فإنها تدخل حلبة المنافسة من دون أن تكون مدفوعة بكراهية الأجانب، بل ربما كانت هذه المنافسة هي سبيلها المفتوح لمراكمة مكاسبها.
ومع هذا فإن هذا التفسير لا يخلو من تبسيط، فالخوف القومي في الخمسينات لم يكن خوفا من منافسين على خدمات ومنافع عامة فقط، بدليل أن صاحب المقال الخمسيني السابق لم يتأجج خوفه من تكاثر عدد الوافدين على البحرين، بل من كون هؤلاء الوافدين من الإيرانيين والهنود والبلوش على وجه التحديد، أي ليسوا من أبناء القومية العربية «الخلّص» الذين رحّب بهم واعتبرهم مواطنين في أي بلد عربي. فما الذي يجعل هذا الكاتب يخشى المنافسة من الأجانب، فيما هو يرحّب بها مع العرب؟ الجواب هو أن هذا الكاتب ينطلق من قناعة تقول بأن القومية هي المصدر الأساسي للهوية، وأن توافد «الأجانب» بكثرة لا يعني إلا شيئا واحدا وهو تهديد الهوية. ولو عاد هذا الكاتب اليوم لما تردد في دعم سياسات تجنيس أبناء القومية العربية وتبرير ذلك تحت عنوان «توطين العمالة العربية للحفاظ على هويتنا القومية»! تماما كما يعلن بعض القوميين اليوم.
وحين تبدّلت الظروف وأطلّت الطائفية برأسها من جديد، أصبحت الطائفة هي المصدر الأساسي للهوية، وعندئذٍ تحرّك الخوف الشيعي من التجنيس الذي لا ينظر له الشيعة إلا على أنه تهديد لهويتهم ومحاولة تستهدف «تغيير التركيبة الديموغرافية» في البلاد، وهذا تعبير ملطّف عن خوف هؤلاء من تحولهم إلى أقلية. وهذا هو الذي يجعل الخوف الشيعي مضاعفا وحادّا إذا ما قيس بشقيقه في المواطنة أي الخوف السني من التجنيس. وبهذا المعنى فإن الخوف السني هو الخوف الوحيد الذي يمكن تصنيفه على أنه «رهاب المنافسين» المحض أي الرهاب غير المشوب بخوف كبير على الهوية، بل هو خوف محض يعلن عن نفسه كرد فعل على مزاحمة المنافسين الجدد على الخدمات والمنافع العامة الشحيحة أساسا. ومع هذا فإن وصف هذا الخوف بـ «رهاب المنافسين» المحض لا يخلو من تجوّز؛ لأنه رهاب مشوب بخوف معلن على «العادات والتقاليد البحرينية»، وعلى أخلاق الطيبة والبساطة والتسامح التي يتميّز بها أهل البحرين سنة وشيعة. أي أنه خوف ثقافي أيضا غير أن التهديد الذي يعبّر عنه هذا الخوف يختلف عن التهديد الذي يعبّر عنه الخوف الشيعي. فالأول خوف ثقافي على «محتويات» الهوية، في حين أن الثاني خوف ثقافي على حجم وكمية وحدود امتداد هذه الهوية.
عادة ما ينتشر «رهاب الأجانب» حين تشعر جماعة ما بأن هويتها مهددة، ولكن، إذا كانت الهوية كيانا مرنا ويسمح بدخول أعضاء جدد وخروج آخرين قدامى، فما السرّ وراء كل هذا الرهاب من «الأجانب»؟ يكمن السرّ في قدرة هؤلاء «الأجانب» على كشف هذه المرونة الجوهرية في الهوية أمام أصحابها الذين يصرّون على حجب هذه الحقيقة. إن «قدرة الأجانب على الاندماج في بنية المجتمع المضيف» تعني أن الهوية كيان مرن يسمح بانتقال «الأجانب» من موقع «الآخرية» ليصبحوا جزءا من هذه الهوية، ومن المؤكد أن هذا الاندماج حصل قبل الخمسينات وبعدها لكثير من البحرينيين من أصول بلوشية أو من عرب الهولة، واللافت حقا أن الاندماج الذي يعبّر عنه نفسه أحيانا في صورة التعصب للعروبة وللغة العربية، لم يحدث في تاريخ البحرين إلا مع هاتين الفئتين، وربما كان السبب أنهما الفئتان الوحيدتان اللتان تفسّران اندماجهما في مجتمع عربي على أنه هجرة معاكسة وعودة جديدة إلى الأصول العربية، فالهولة يعتقدون أنهم مجموعة من القبائل العربية هاجرت من شبه الجزيرة العربية إلى بر فارس، إلا أنها بدأت «في الهجرة المعاكسة إلى الجزيرة العربية ودول الخليج العربي» (تاريخ عرب الهولة ص168)، ما يعني أن هذه القبائل حين تعربت فإنها عادت إلى أصولها، أما البلوش فإنهم كذلك يعتقدون «بأنهم عرب أقحاح ينتمون إلى العرق العربي ويفتخرون بهذا الأصل» (بلوشستان قوس الخليج المشدود، ص270، وانظر كذلك ص346). ما يعني أن تعرّبهم ليس أكثر من عودة إلى الأصول.
وبهذا المعنى فإن اندماج الأجانب لا يمثّل خطرا على الهوية، لأنه ليس أكثر من إضافة أعضاء جدد - وربما أعضاء قدامى يقومون بهجرة معاكسة - إلى هذه الهوية، إلا أن هذا الاندماج يمثّل خطرا على مزاعم دعاة الهوية القوميين والطائفيين الذين يصرّون على أن الولاء القومي والطائفي إنما «يقتصر على أبناء الجماعة الأساسيين وحسب» (القومية والعقلانية، ص195). وبحسب تعبير برايتون فإن «رهاب الأجانب» يمثّل «حاجزا يحتمي به أعضاء الجماعات» من أجل وقف «تسرّب المعلومات الواردة عبر الجماعات الأجنبية التي قد تتيح لأبناء الجماعات العرقية (وغيرها) اكتشاف أن ما نطلق عليه الشعور بالانتماء أو الهوية أمر ضئيل، هذا إن كان له تأثير على الإطلاق على الجذور العرقية أو القومية (أو الطائفية)» (القومية والعقلانية، ص195 - 196).
حين تلجأ جماعة ما إلى تمييز نفسها بأوصاف من قبيل «البحرينيين الحقيقيين» و»البحرينيين الأصليين» فإن هذا علامة على أننا أمام صراع يجري من أجل احتكار حق التمثيل، أي حق تمثيل الهوية والنطق باسمها. ولا ينشط هذا النوع من الصراع إلا حين يظهر في المشهد أعضاء جدد «خارجيين» يسعون إلى الاندماج في بنية هذه الهوية والتمتع بحق تمثيلها والاستثمار في هذا التمثيل، فتلجأ الجماعة إلى تحصين حدودها لإفشال أي مسعى اندماجي يبادر له هؤلاء. وبالمعنى هذا فإن قوميي الخمسينات وشيعة البحرين اليوم إنما لجأوا إلى استخدام تعبيرات «البحرينيين الحقيقيين» و»البحرينيين الأصليين» من أجل إقفال حدود الهوية البحرينية لمنع القادمين الجدد من اكتساب عضويتهم الجديدة في هذه الهوية. يمكن للأجانب الوافدين في الخمسينات أن يدخلوا البحرين بحرية ومن دون تأشيرات دخول، ويمكن لبعضهم اليوم أن يحصل على الجنسية البحرينية بسهولة، إلا أن المغزى من تعبير «البحرينيين الحقيقيين والأصليين» يكمن في أنه يغلق الهوية بحيث يستحيل على هؤلاء «الأجانب» أن يكتسبوا عضويتهم الأكيدة فيها، وبهذا المعنى فإن الهوية شيء والحصول على تأشيرات الدخول والجنسية شيء آخر. سيبقى هؤلاء دائما موسومين ومدموغين بالنقص، في حين يكون التمتع بالعضوية الكاملة في الهوية امتيازا خاصا لأعضائها الأساسيين «الحقيقيين والأصليين». هذا هو المغزى الحقيقي لسياسات تحصين الهوية وإقفال حدودها.
وإذا جرى التعامل مع «الهوية البحرينية» على أساس أنها من نوع «السلع الموقعية أو الموضعية» فإن هذا يعني أن «البحرينيين الحقيقيين والأصليين» يستهلكون القدر الإيجابي في هذه السلعة في حين يكون مصير الآخرين أن يستهلكوا القدر السلبي منها فيكونوا بذلك «بحرينيين مزيفين وطارئين». إلا أن الفرق بين الاستهلاك الإيجابي الأول المتمثل في «البحرينيين الحقيقيين» وبين الاستهلاك الإيجابي الثاني المتمثل في «البحرينين الأصليين» إنما يكمن في أن الأول اضطلع في الخمسينات بوظيفة إغلاق الهوية من جهة، وتوحيد السنة والشيعة العرب من جهة أخرى، في حين أن الثاني يضطلع، كسلفه الخمسيني، بوظيفة إغلاق الهوية، إلا أنه يضطلع، وفي الوقت ذاته، بوظيفة انقسامية سلبية وخطرة وهي تمزيق الوحدة الوطنية بين «البحرينيين الحقيقيين» أنفسهم. وعند التأمل في هذا المآل الأخير سنكتشف أن سياسات الهوية قد دخلت في مسار انغلاقي خطير، فبعد حالة الاتساع والتعايش والتسامح بين الهويات إذا بالهوية تنعطف في منعرج انغلاقي واضح في الخمسينات، إلى أن يتعمق انغلاقها بصورة مخيفة في السنوات الأخيرة. ويتحمّل ملف التجنيس الوزر الأكبر فيما انتهينا إليه من بروز هويات متوحشة ومفترسة وضيقة الصدر.
وعلى صعيد آخر، فإن الصراع على احتكار حق تمثيل الهوية «الحقيقية والأصلية» يرتبط بمسألة أخرى وهي شعور الجماعات بالاكتفاء أو بالحاجة إلى أعضاء جدد. والحق أن كل الجماعات تشعر بالحاجة إلى اكتساب أعضاء جدد بما في ذلك الجماعات ذات العضوية المغلقة (كما هو الحال عند اليهود)، إلا أن الفرق يكمن في طريقة اكتساب العضوية، فسدّ حاجة الجماعة إلى أعضاء جدد قد يتم عن طريق التكاثر والتوالد داخل الجماعة، أو عن طريق التكثير عبر استجلاب أعضاء جدد من خارج الجماعة، والتجنيس هو نوع واضح من هذا التكثير. وهذه الوظيفة التكثيرية هي التي تؤجج الخوف الشيعي من عمليات التجنيس الكبيرة اليوم.
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1796 - الإثنين 06 أغسطس 2007م الموافق 22 رجب 1428هـ