العدد 1794 - السبت 04 أغسطس 2007م الموافق 20 رجب 1428هـ

ديكنز وتنابلة الوطن!

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

عندما وقعت في يدي رواية «أوليفر تويست» قبل ربع قرن، لم أكن أدرك حينها أني سأقرأ عن الجانب الإنساني للثورة الصناعية، بأسلوب روائي مؤثر وجميل. هذه الثورة التي غيّرت وجه العالم كله، ونقلته من الاقتصاد الزراعي إلى الصناعي، مستخدمة الفحم والحديد في صناعة الآلات والسفن البخارية والقطارات، كانت لها كلفة إنسانية باهظة، إذ كسحت الصناعات التقليدية وفكّكت التركيبة السكانية، وبعد أن كان ثلاثة أرباع البريطانيين يعيشون في القرى والأرياف، أصبح نصفهم يعيشون في المدن الصناعية المزدحمة بالعمال المهاجرين في أحزمة البؤس.

في هذا الوضع، ولد تشارلز ديكنز لعائلة فقيرة، الابن الثاني من بين ثمانية أخوة، راتب والده لم يكن يكفي لنفقات العائلة، وعاش طفولة بائسة. ودخل سوق العمل وهو طفل بعد سجن أبيه لعجزه عن الوفاء بديونه، ومرّ بتجارب صقلت موهبته الكتابية، فأنتج تلك الروايات اللاذعة التي أبكت أجيالا من قرّاء الأدب من مختلف القارات، وفي مقدمتها قصة الطفل اليتيم «أوليفر تويست»، التي تبدأ بوصف منظر احتضار أمه على سرير المستشفى وما تؤول إليه حياته من تشردٍ وجوعٍ ومذلةٍ وعذاب.

دارسو الأدب يقولون إن رواياته الحزينة التي أبكت مواطنيه في القرن التاسع عشر، أسهمت أيضا في إصلاح أوضاع العمال وتخفيف معاناة المشردين، ووضع القوانين التي حفظت حقوقهم، لأنها كانت تضرب في العصب الإنساني العام، الذي جعل الروس، وهم جهابذة كتابة الرواية في العالم، يفضلونه على كل كتّاب أوروبا.

ما عمله ديكنز، هو أنه كشف نقاط ضعف الثورة الصناعية التي صنعت مجدها من عرق وعذاب الفقراء، بينما كان تفكير الأغنياء منحصرا في مراكمة الثروات ورؤوس الأموال.

من حسن حظ ديكنز، أنه عاش في بلد ديمقراطي عريق، أتاح له الحديث عن نواقصه وانتقاد سوءاته، تمهيدا لعلاجها وإصلاح المجتمع، ولم ينبر له بعض المنافقين والطفيليين الوقحين بعقد مؤتمرات صحافية للقول بأن «الفقر قضية عالمية وليست محلية». ديكنز لم يبتلى بشخصيات عليها قضايا فساد وتزوير وتجاوزات وسرقات، لو قدّمت للمحاكمة لحكم عليهم بالسجن عشرين عاما.

ديكنز لم يبتلى بجمعيات كارتونية، تعتبر أن ما ينشر عن الفقر «إثارة صحافية لإشغال الرأي العام»! وهو محظوظٌ جدا لأن حكومته لم تسلّط عليه طبقة طفيلية لزجة تعتاش على الفتات، وتصرّح بأن ما ينشر من روايات يعد إساءة لبريطانيا العظمى، مملكة وشعبا، وكان الأحرى به أن يتبرع للفقراء والأيتام من جيبه، أو يتصل بوزارة التنمية الاجتماعية لتحل الموضوع بشكل فوري!

ديكنز الذي كاشف بلده بالحقيقة: وطنٌ متحجر المشاعر، ومجتمعٌ لا يعرف شيئا اسمه الرحمة، تحكمه علاقات الإقطاع وتتحكم فيه العبودية والاستغلال... لم تتبخر دعوته في الهواء، لأن هناك آذانا واعية سمعت صيحته وعملت على إنقاذ الوضع في بلدٍ يغلي، وكانت كل التوقعات تشير إلى أنه مقبلٌ على انفجار كبير، بفعل التناقضات الطبقية الحادة وانتشار الفقر والحرمان والجوع.

من حسن حظ بريطانيا أيضا أنها لم تبتلى بصحافةٍ سطحية أو نُخبٍ جشعة، تقوم بالتغطية على بؤر الفساد أو تخدع وتضلّل صاحب القرار، بتصوير أن الوضع (كلش تمام). كما لم تفكّر بريطانيا بحل مشكلاتها بتجنيس «كتبةٍ» من مخلفات القرون الوسطى، تنم لغتهم على درجةٍ عالية من البذاءة والسوقية والانحطاط.

ديكنز قرع جرس الخطر، فأدرك البريطانيون أنهم مقبلون على هاويةٍ فتداركوها بالإصلاح، ولو كان لديهم مثل هؤلاء التنابلة الذين جفّ ماء الحياء من وجوههم... لاحترقت بريطانيا من زمان!

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 1794 - السبت 04 أغسطس 2007م الموافق 20 رجب 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً