العدد 1791 - الأربعاء 01 أغسطس 2007م الموافق 17 رجب 1428هـ

دارفور والسياسة التدخلية الدولية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

بعد مناورات سياسية ودبلوماسية ترافقت مع ضغوط نفسية وتهديدات أمنية ضد حكومة الخرطوم نجحت الدول الكبرى في مجلس الأمن في إصدار القرار 1769 أمس الأوّل بشأن إقليم دارفور السوداني. فالقرار الذي صدّق عليه أعضاء المجلس بالإجماع ينصّ على نشر قوات دولية - إفريقية مشتركة تقدّر بـ 26 ألف جندي في الإقليم.

آلية القرار تشمل مجموعة خطوات تبدأ بإعادة تنظيم الوجود الإفريقي في دارفور وتطعيمه بقوات دولية تكون تحت إشراف الأمم المتحدة وإدارتها وتمويلها. ويطالب القرار بمنع الهجمات ضد السكان واحترام وقف إطلاق النار تمهيدا لنشر القوات المشتركة خلال فترة لا تزيد عن خمسة أشهر.

القرار سيكون ساري المفعول بعد أشهر وجاء إثر سلسلة مداولات جرت على امتداد سنتين شكلت في مجموعها سوابق لم تعهدها الهيئات الدولية من قبل. فالقرار لا يتحدّث عن أزمة إقليمية أو مشكلة حدودية ولا عن نهاية حرب بين دولتين وإنما يتناول أزمة داخلية نشبت بين قوى محلية. وهذا يعتبر إضافة غير مسبوقة في تاريخ الأمم المتحدة التي اقتصرت تدخلاتها في الفترات الماضية على وضع حد للحروب الحدودية أو بين الدول. أمّا القرار 1769 فهو أعطى للأمم المتحدة صلاحيات تدخلية في مشكلة أهلية من دون موافقة من الحكومة المركزية (الخرطوم). وهذه النقطة تعتبر أيضا خطوة جديدة في التعامل الدولي مع قضايا محلية.

إلى ذلك هدد القرار الحكومة السودانية بعدم التدخل أو الاعتراض معتبرا الأمر إذا حصل مخالفة للقانون الدولي ويعطي الأمم المتحدة صلاحية لمعاقبة الدولة (الوطنية) اقتصاديا وماليا وبالتالي ستتعرض إلى نوع من الحصار بذريعة عدم التجاوب مع الإرادة الدولية.

خطورة القرار 1769 ليست في بنوده القانونية بقدر ما هو يشكل نسخة «نموذجية» عن السياسة التدخلية التي ينص عليها ويرجح أن تتحوّل إلى إطار عام يمكن تطبيقه على حالات مشابهة. وهذه الخطوة النوعية تشير إلى سياسة تدل على مدى نمو الطابع التدويلي للمشكلات سواء على مستوى تراجع مفاهيم السيادة والاستقلال للدول الوطنية أو على مستوى تقدم دور الأمم المتحدة في التدخل في الشئون الداخلية للدول التي تصنّف بالفاشلة.

دارفور إقليم سوداني والمشكلة الأهلية محلية والصراع الدائر ناتج عن حروب قبلية ونزاعات مسلحة عجزت الحكومة المركزية عن وضع حد لها. وبسبب عجز حكومة الخرطوم عن احتواء الأزمة اتهمت الدولة من قبل عواصم أوروبا وأميركا بتجاهل الكارثة الإنسانية أو تشجيع فريق على آخر.

هذا الفشل فتح الباب أمام الدول الكبرى للتدخل بذريعة إنسانية في وقت تدلّ المؤشرات على وجود دوافع اقتصادية (نفطية ومعادن غنية) وراء القرار الدولي. فالكارثة الإنسانية التي يعاني منها الإقليم ليست الوحيدة من نوعها في العالم ولكن الدول الكبرى، وتحديدا الولايات المتحدة وبريطانيا وأخيرا فرنسا ساركوزي، استغلتها سياسيا لتقوم بتأسيس خطوة إضافية في سياق العمل على اختلاق «نموذج» يشكل بداية لتدخلات دولية مشابهة في مناطق أخرى من العالم. فبعد دارفور ستصبح هناك مادة قانونية تجيز للدول الكبرى البناء عليها للتدخل الدولي تحت ذرائع إنسانية مختلفة الأوجه.

«النموذج» الدارفوري ليس البداية في هذا المجال ولكنه خطوة إضافية نوعية تسمح للدول الكبرى في تطويع القانون الدولي وإعادة تشكيله ليتناسب مع سياساتها ومصالحها الاقتصادية. فقبل دارفور حصلت تدخلات مشابهة كما كان حال يوغسلافيا في تسعينات القرن الماضي. ولكن النموذج البلقاني الذي ظهر في صراعات مسلحة وتجاذبات إقليمية وقارية شكّل بداية التفكير في كسر الحواجز «الوطنية» و»السيادية» للدول المستقلة والمنضوية في الأمم المتحدة. وبعد يوغسلافيا (البوسنة وكوسوفو) ظهرت صراعات محلية كثيرة شجّعت الدول الكبرى على الضغط باتجاه تعديل مواثيق الأمم المتحدة التي تمنع التدخل في شئون محلية تعتبر تقليديا من اختصاص الدولة الوطنية وسيادتها.

الآنَ وكما يلاحظ من القرارات الصادرة عن مجلس الأمن بدأت الدول الكبرى تتخطى الحواجز «الوطنية» وتخترق قانون السيادة الذي تنصّ عليه معاهدات الأمم المتحدة باتجاه المزيد من التدخل في شئون محلية. وما حصل أمس الأوّل بشأن إقليم دارفور يعتبر إشارة سياسية لتوجهات دولية يرجّح أن يزيد من جرعة التدخل في حل قضايا أهلية ومحلية. والنموذج السوداني يشكل بداية واضحة في هذا السياق القانوني الذي ربما سيؤدي إلى إعادة النظر بالكثير من الثوابت المتعارف عليها في المعاهدات الدولية أو مواثيق الأمم المتحدة.

نماذج فاشلة

الذريعة الإنسانية التي اعتمد عليها القرار 1769 للتدخل في إدارة شئون إقليم سوداني شكّلت ذاك الغطاء السياسي لإضعاف الحكومة المركزية لمصلحة تعزيز صلاحيات محافظات تخضع للدولة الوطنية وسيادتها. وهذا الأمر يشكّل بداية لتدخلات إنسانية قد تطرأ في أمكنة أخرى ربما تعطي فرصة للدول الكبرى للتحرك ضد حكومة تصنّف في خانة الدول «الفاشلة» أو «المارقة» أو «الشريرة». فالتذرع بالكارثة الإنسانية يعطي الدول الكبرى ذاك المفتاح القانوني لطرق الأبواب واقتحام الأسوار «الوطنية» أو «السيادية» في الكثير من المناطق التي تشكّل نقاط توتر تزعج سياسات أميركية أو أوروبية.

التوظيف السياسي للكارثة الإنسانية في إقليم دارفور يمكن اعتباره مجرد بداية في ترتيب «نموذج» اشتغلت الدول الكبرى على صنعه أكثر من 15 سنة على تلاشي «الحرب الباردة». وهذا التوظيف الذي يعتبر خطوة فوق العادة الآنَ سيتحوّل لاحقا إلى عادة دولية تعطي الدول الكبرى حق التدخل في شئون محلية لذرائع إنسانية.

الغريب في موضوع تدويل أزمة دارفور أنه جاء بعد سلسلة قرارات دولية تدخلية فاشلة سواء في أفغانستان والعراق وفلسطين ولبنان. فالنموذج الخاص الذي ظهر في السودان لم يتأسس على نجاحات دولية في حلحلة أزمات سياسية وأهلية في مناطق أخرى وإنما شكّل خطوة في سياق كارثي ظهر في بقاع مختلفة من العالم.

في أفغانستان تراجع موقع الدولة وظهرت انقسامات قبلية رفعت من درجة التوتر الأهلي والإقليمي (باكستان مثلا). وفي العراق انهارت الدولة وتقوّضت وظهرت انقسامات مذهبية رفعت من درجة التوتر الأهلي والمناطقي والجواري. وفي فلسطين يعتبر حال السلطة أسوأ من الفترات السابقة. كذلك أصبح حال الدولة اللبنانية بعد العدوان الأميركي - الصهيوني في الصيف الماضي.

إذا على ماذا أسست الأمم المتحدة قرارها الدولي بشأن إقليم دارفور السوداني؟ على النجاح في أفغانستان والعراق وفلسطين ولبنان أم على الفشل. وهل الفشل الأميركي تحوّل إلى نموذج دولي تأخذ به الأمم المتحدة لنشره إفريقيا وتعميمه على مناطق مختارة تعاني من القهر الإنساني.

في العراق مثلا قتل أمس نحو 70 شخصا بالتفجيرات وسقط في الشهر الماضي (يوليو/ تموز) أكثر من 1653 عراقيا بفضل الاحتلال الأميركي. وسنويا تدفع بلاد الرافدين ما يزيد على 36 ألفا من الأبرياء. ومن بدء الغزو حتى الآن نزح 3 ملايين عراقي خارج البلاد وانتقل 8 ملايين داخل المناطق لأسباب مذهبية وطائفية وإنسانية. والآنَ بدأت الإدارة الأميركية تدرس مع لوبيات ديمقراطية وجمهورية في الكونغرس احتمال تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات طائفية في الجنوب والشمال والغرب.

إذا كان هذا هو «النموذج» المحتذى الذي صنعته الولايات المتحدة في العراق لذرائع سياسية وإنسانية فكيف سيكون حال السودان بعد تدويل أزمة دارفور؟ باختصار لن يكون الحال أفضل في اعتبار أن سياسة الدول الكبرى تحوّلت قانونيا إلى وقاحة إنسانية استنادا إلى تلك المعايير والنماذج التي أسستها الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق وفلسطين.

التذرع بالعامل الإنساني لتبرير التدخل الدولي في إقليم سوداني ليس كافيا لإقناع العالم بوجوب اتخاذ مثل هذه الخطوة الإضافية. فهذه الذريعة سقطت سياسيا بدليل أنّ الوضع الإنساني في أفغانستان والعراق وفلسطين ليس أفضل من دارفور، فكيف إذا تعطي الولايات المتحدة نفسها حق التدخل الدولي في قضية سودانية محلية في وقت قدّمت للعالم خلال السنوات الست الماضية نماذج فاشلة وأسوأ من تلك الكارثة الإنسانية التي يمر بها إقليم دارفور.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1791 - الأربعاء 01 أغسطس 2007م الموافق 17 رجب 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً