لا يعنينا هنا ما ينطوي عليه ملف التجنيس من أبعاد سياسية أو قانونية. بل سنتناول هذا الملف من منظور ثقافي أوسع، وسنركّز على المدلولات التي ينطوي عليها فعل التجنيس إذا ما قامت به الدولة فعلا، وعلى الاستجابات الجماعية التي تطلّ برأسها في حال قامت الدولة بهذا الفعل أو توهّمت الجماعات قيامها بذلك. كما سنتناول هذا الملف في علاقته الوثيقة بسياسات الهوية، وبالصراع الذي يندلع من أجل احتكار حق تمثيل هذه الهوية.
ومن حيث المبدأ، يمثّل «التجنيس السياسي» تدخُّلا مغرضا (أي تدخل له غرض محدد) من قبل الدولة. وفي دولة لا تشكو من نقص سكاني فإن هذا التدخّل يعبّر عن اعتراض الدولة على عمليات التكاثر الحيوية الطبيعية الجارية بين مواطنيها. والرسائل التي ترسلها الدولة من وراء عمليات التجنيس السياسي تقول إن التكاثر الطبيعي لدى المواطنين غير مرضٍ من حيث النوع أو الكم، أو إنه قد سار في مسارات خاطئة ولا يمكن التحكم فيها بصورة حيوية، فلم يبق أمام الدولة إلا أن تتدخل لتصحيح مسارات التكاثر هذه بطريقة خارجية، وذلك من خلال تجنيس أعداد كبيرة قادرة على تصحيح مسار التكاثر الحيوي الذي ترى الدولة أنه سار في اتجاهات «منحرفة». وهذا بالضبط يشبه حال دولة مسئولة عن إدارة شئون بشر يتكاثرون بصورة طبيعية إلا أن معظم الأولاد الذين ينجبونهم مصابون بأمراض تورثهم العجز البدني أو التخلف العقلي. فليس أمام الدولة في حالة كهذه إلا التدخّل «اليوجيني» اللاأخلاقي (اليوجيني eugenic مصطلح صاغه فرانسيس جالتون في العام 1883، ويعني به تحسين النسل عن طريق منح السلالات الأكثر صلاحية فرصة أفضل للتكاثر السريع مقارنة بالسلالات الأقل صلاحية، وهذا لا يكون إلا حين يتعطل عمل الصدفة في عمليات الانتخاب الطبيعي ويستبدل بهذا الانتخاب قوانين الانتخاب الاصطناعي والمبرمج). ويتجسّد هذا التدخّل في قيام الدولة بمنع هؤلاء البشر من الإنجاب، أي بوقف عمليات التكاثر الطبيعية بينهم، أو من خلال السماح لهم بالإنجاب مع اللجوء إلى عمليات تكثير خارجية عبر أعضاء جدد يأتون من خارج دائرة التكاثر الطبيعي التي تجري في البلاد.
هذه حالة متطرفة من تدخل الدولة في عمليات التكاثر، وهناك حالات أشد تطرفا وهي تتمثل في إقدام الدولة على إبادة جماعات بأسرها وإحلال آخرين محلها، كما أن هناك حالات أقل تطرفا وتتمثل في دولة تستهدف تغيير «التركيبة الديموغرافية» لصالح جماعة قومية أو دينية أو طائفية أو سياسية أو جنسية (دولة تحرص على تكاثر الذكور من دون الإناث) أو عمرية (دولة تحرص على تكاثر الشباب والتعجيل بموت الكهول العجزة). وعلى رغم التنوع النسبي لحالات التدخل هذه، فإنها كلها تدخّلات لا أخلاقية، ولا يمكن تسويغها أخلاقيا ولا قانونيا. وتدخل كلها تحت مسمى «الإبادة الجماعية» التي لا تشمل القتل الجماعي المنظم فحسب، بل تشمل كل أشكال التدمير غير المباشر للمجتمع من خلال التدمير المتعمد للبيئة التي تسمح له بالتكاثر البيولوجي والاجتماعي. ومن الضروري هنا التذكير بأن المادة (2) من اتفاق الأمم المتحدة بشأن «منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها» 1948، تعرّف «الإبادة الجماعية» بأنها تشمل كل الأفعال المرتكبة عن قصد وبغاية «التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية». وتضم البنود الفرعية من الاتفاق ما يلي: 1- قتل أعضاء من الجماعة، 2- إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة، 3- إخضاع الجماعة عمدا لظروف معيشية يراد منها تدميرها المادي كليا أو جزئيا، 4- فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة، 5- نقل أطفال من الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى (تنظيم الأمم والمجتمعات العرقية، ص401)
ثم إن هذا النوع من التدخّلات يرسل رسائل سلبية إلى المواطنين في عموميتهم مؤداها أنهم مرفوضون ومنبوذون وغير مرحّب بهم، وأن الدولة منحازة ضدهم. وهذا انحياز يقوّض «حياد الدولة» تجاه المواطنين وانتماءاتهم الجماعية، وفي حالة مثل البحرين فإنه انحياز يعمّق الأزمة السياسية، ويزيد من انعدام الثقة، ويديم التنازع الاجتماعي ويعطّل حالة التوافق العام داخل الدولة لعقود مقبلة.
لم يكن التجنيس يمثّل معضلة سياسية واجتماعية في تاريخ البحرين الحديث، ويذكر محمد الرميحي أن «موضوع التجنّس لم يكن ذا أهمية كبيرة»؛ والسبب أن «الأعداد التي منحت الجنسية بين السنوات 1948 - 1969 لم تتجاوز الـ 432 شخصا أجنبيا» (البحرين: مشكلات التغيير السياسي والاجتماعي، ص54). وهذا يعني أن حالات التجنيس المتفرقة والمحدودة لا تكون ذات أهمية سياسية واجتماعية كبيرة؛ لأن هذه الحالات المتفرقة لا ترقى لأن تكون بمثابة «تدخّل مغرض» من قبل الدولة بهدف «تصحيح أو تحريف» مسارات التكاثر الطبيعي التي تعترض عليها، كما أن هذه الحالات لا تحمل مضمون الرسالة التي تقول: «إن الدولة ترفضنا». وبهذا المعنى فإن المعضلة كلها تكمن في عمليات التجنيس الكبيرة التي تُقرأ على أنها «تدخّل مغرض» من قبل الدولة، وهو «تدخّل» يستشعر المواطنون أنه ينطوي على اعتراض الدولة على عمليات التكاثر الطبيعية بينهم، أي الاعتراض على خياراتهم الحيوية التي اتخذوها بملء إرادتهم وبما تسمح به ظروفهم. وبهذا المعنى فلا فرق بين عمليات التجنيس الكبيرة التي تجرى وفق قانون منح الجنسية، أو تلك التي تجرى خارج القانون، لأن العبرة هنا ليست في قانونية هذا الإجراء أو عدمه، بل في معنى الإجراء ودلالته والرسائل التي ترسلها الدولة إلى المواطنين المستهدفين الذين يقرأون هذه الرسائل ويتصرفون - سلبا أو إيجابا - وفقا لما يفهمونه هم من مضامين هذه الرسائل ودلالاتها. وهو ما يحرّك اعتراض المواطنين على تدخّلات الدولة، فنكون بعد ذلك بإزاء مواجهة بين اعتراضين: اعتراض المواطنين في وجه اعتراض الدولة. المسألة إذا تتمحور حول قضية «العدد» و«الحجم» و«الكمية»، وحول حقيقة يشترك الطرفان - الدولة والمواطنون المستهدفون - في إدراكها وهي أن «العدد قوة». وحين يكون الأمر كذلك يصبح الخوف من التحول إلى أقلية مستعرا بقوة. لأن التحول إلى أقلية يعني تقليل العدد وتقليص الحجم وانخفاض في كمية النفوس، أي الحرمان من القوة وأسبابها.
والحق أن هذه المواجهة بين الاعتراضين ليست جديدة، ولا هي حالة استثنائية لم تعرف لها البلاد سابقة من قبل، بل ثمة مواجهة جرت في الخمسينات هي أشبه شيء بما يجري اليوم من مواجهات، إلا أن الفرق أن هذه المواجهة كانت تجري على أساس الرهاب القومي، في حين أنها تجري اليوم على أساس الرهاب الطائفي (المذهبي). وكما يجري اليوم فإن توافد «الأجانب» بأعداد كبيرة على البحرين هو العنوان الأبرز الذي حرّك هذه المواجهة في الخمسينات، وكما هي هواجس شيعة البحرين اليوم من تحولهم إلى أقلية، كان القوميون العرب في الخمسينات مستنفرين غاية الاستنفار، وكان يتملكهم هلع كبير من «أن أهل البحرين الحقيقيين سيصبحون قريبا جدا أقلية في وطنهم، وعندها على قوميتنا وعروبتنا السلام» (مجلة صوت البحرين، ع:5، 1954، ص37).
و كان الباعث على كل هذا الهلع من تحول «البحرينيين الحقيقيين إلى أقلية» هو نشر إعلان يقضي برفع تأشيرات «الدخول بين إمارات الخليج العربي». وقد استبشر الناس بهذا القرار في بادئ الأمر، ثم تحول هذا الاستبشار إلى هلع على ضياع عروبة البحرين وتحول أهلها «الحقيقيين إلى أقلية»، والمقصود بـ «الحقيقيين»، في عرف القوميين الخمسينيين، ينحصر في المواطنين البحرينيين العرب سنة وشيعة. وأما سياق هذه القضية كلها فهو أن البحرين - ومعها الكويت - صارت تستقبل أسبوعيا أعدادا كبيرة تقدر بالآلاف من «الإيرانيين والهنود والبلوش» ممن حصل على جنسية إحدى الإمارات العربية. ولقد سبب هذا التوافد الهائل على «جزيرة» صغيرة محدودة السكان كل هذا الهلع، إلا أن مراجعة المسألة تكشف أن هذا التوافد لم يكن هو منشأ الهلع الحقيقي، بل يكمن منشأه في أن كل هؤلاء الوافدين كانوا من «الأجانب»، والأجانب، في عرف قوميي الخمسينات، هم غير العرب قاطبة، وفي حالتنا هم «الإيرانيون والهنود والبلوش». فالخوف إذا منصبّ على «نقاء الهوية» وانسجام «قوميتنا وعروبتنا» المهددة بالزوال نتيجة توافد هؤلاء «الأجانب» الذين يصفهم كاتب قومي مستنفر في مجلة «صوت البحرين» بـ «الغزاة» الذين يهددون عروبة البلاد (ص37). والدليل على أن هذا الخوف إنما كان يعكس الخوف من فقدان الانسجام في الهوية (عروبة البلاد وأهلها) أن هذا الكاتب يعود فيكتب بأن «البحرين والكويت ترحبان بالعرب الخلّص من أبناء الإمارات الساحلية (...) فإننا في ميزان القومية لا نفرق بين قطر عربي وآخر. فأي عربي في نظرنا مواطن في أي بلاد عربية (...) لكننا لن نرضى أن يفد إلينا باسم الإمارات، من هبّ ودبّ، من الأمم الأخرى» (ص37).
وهنا يتضح أننا أمام خوف ثقافي من الآخرين الذين «يهبّون ويدبّون» ويهدّدون بتقويض انسجام الهوية و«تحطيم القومية العربية». وكالعادة فقد جرى تغليف هذا الخوف الثقافي المتجذّر على «انسجام الهوية» بأغطية وتبريرات من قبيل الاستنتاج الذي خلص إليه كاتب هذا المقال وهو أن وراء ما يجري «مؤامرة استعمارية» تستهدف هويتنا القومية في الصميم.
هذه حالة نموذجية من الخوف الثقافي المتجذّر من الآخر الذي يُرى دائما كـ «دخيل» و«غازي» يهدد «نقاء الهوية» وانسجامها. وليس خافيا أن هذا خوف لا يستنفر إلا في سياق ثقافي يرى أن «الانتماء إلى جماعة قومية هو غاية بحد ذاته»، وأن هذا الانتماء هو أساس الهوية، وأن هذه الهوية طبيعية وقَدَرية و«كيان فطري أو كينونة وهبها لنا الله»، أو هي من «خلقة الله» التي لا تبديل لها ولا تحويل، وهي لهذا أكبر من مجرد «شيء اعتباطي»، أو «شيء مبنيّ، ومُنتَج، وحتى مختلق في بعض الحالات، له تاريخ من الصراعات والفتوحات التي ينبغي تمثيلها» (صور المثقف، ص46)، وتاريخ من الرواسب والإضافات والامتزاجات الكثيرة التي تتنازع داخلها وتمارس القهر المتبادل أو التواصل فيما بينها. وإلا فلو كان القوميون في الخمسينات وشيعة البحرين اليوم ينظرون إلى مسألة الهوية على أنها شيء اعتباطي ومبني ومنتج وحتى متخيّل ومختلق في بعض الحالات، لما كان هناك من مبرر لكل هذا الخوف من التحول إلى أقلية؛ لأن التحول إلى أقلية لا يعني انقراض النوع البشري لنكون مرعوبين إلى هذه الدرجة! فهو مجرد تهديد لكيان «مبنيّ، ومنتج، وحتى مختلق في بعض الحالات». وحين ننظر إلى «الأمة» على أنها «مجموعة من الأفراد الذين يعتبرون أنفسهم أعضاء في تلك الأمة، وينظر كل منهم للآخر باعتبارهم أعضاء في تلك الأمة» (القومية والعقلانية، ص42)، فإننا ننتهي إلى حقيقة مهمة وهي أن الأمة لا تتأسس بالضرورة على قواسم مشتركة عرقية (الأصل السلالي) أو ثقافية (الدين أو اللغة أو العادات...إلخ)، بل إن الحاسم في تكوين الأمة هو اشتراك أفرادها في الاقتناع والاعتقاد بأنهم أمة واحدة. وحين يتحقق هذا الاقتناع فإنه لن يكون عسيرا على هذه الأمة اكتشاف - أو حتى اختراع - «القواسم المشتركة» فيما بينها، بحيث يتحوّل الاقتناع الاعتقادي إلى اقتناع موضوعي معزّز بتشابهات واقعية أو رمزية، وبحسب إرنست غلنر فإن «القومية ليست إيقاظا للأمم من سباتها وبثّ روح الوعي بالذات لديها، إنها في حقيقة الأمر تخترع أمما لا وجود لها في الواقع» (القومية والعقلانية، ص334). وعادة ما تضطلع الدولة بهذه المهمة، وذلك من خلال مؤسسات التعليم والإعلام الرسمية والاحتفالات الوطنية والقومية. والحق أن هذا المفهوم للهوية هو الذي يسمح بتحولات الهوية، وبالانشقاقات والامتزاجات التي تحصل داخل الهوية، وهو أساسا الذي يسمح بنشوء هويات جديدة أو شبه جديدة وذلك بعد قيام الدولة أو بعد انفصالها عن الدولة الأم كما هو الحال في «الأمة الأميركية» و«الأمة الباكستانية» على سبيل المثال.
وللحديث صلة في الأسبوع المقبل.
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1789 - الإثنين 30 يوليو 2007م الموافق 15 رجب 1428هـ