من الظواهر الجديرة بالملاحظة في بدايات القرن العشرين أن الدياسبورا البحرينية قد اندمجت في البيئات الجديدة التي تشتّت فيها، واستقرّت في «أحياء البحارنة» الناشئة في هذه البيئات الجديدة، وتناست تجربة الاقتلاع التي عاشها المشتتون الأوائل، في حين بقي الناجون يعيشون تحت هاجس الشعور بأنهم منفيون في وطنهم، ومهددون بالاقتلاع وانقراض الهوية. وقد كان لهذا الهاجس أن يفعل فعله في صوغ الوجدان الجماعي لدى هؤلاء، وهو الوجدان الذي صار مشطورا إلى نصفين، ومسكونا بنوستولجيا وعاطفة مشبوبة باتجاه نقطة جذب مركزية تقع هناك في الماضي حيث الزمن الممتلئ بالمعنى والانسجام. وصار كل واحد من هؤلاء يرى أن بقاءه على قيد الحياة بعد كل الشتات والخراب الذي عرفته البلاد، هو بحد ذاته معجزة تستحق الامتنان، إلا أنها معجزة تحمل صاحبها على تقدير الحياة بحيث يصبح البقاء هو الهدف الأوحد. وحال هؤلاء لا يختلف عن حال من نجا من سفينة غارقة، أو من زلزال مدمّر، فكل هؤلاء يبقون مشطورين بين شعورين متعارضين: بين مقاساة التذكّر المعذّب للأهل والأصدقاء الذين قضوا نحبهم في الغرق أو الزلزال، وبين الامتنان على نعمة النجاة التي لا تقدّر بثمن. وفي حالة شيعة البحرين فإن النجاة لم تكن صافية بلا مكدرات، فمن نجا من الخراب والشتات لم ينجُ من تجربة المظالم والتعديات وحتى أعمال السخرة. وهو ما حوّل امتنان النجاة من الخراب والشتات إلى انتظار دائم لمعجزة نجاة أخرى قد تأتي في وقت ما.
وأسّست هذه الظروف لمطابقة عصية على الانفكاك، وهي المطابقة بين هذا الانتظار المحلي الذي فرضته سيرة الشتات والخراب والمظالم والمعاناة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وبين الانتظار الاعتقادي أي انتظار «يوم الخلاص» حيث يبعث الله الإمام الغائب (المهدي المنتظر) في آخر الزمان من أجل أن «يملأ الأرض قسطا وعدلا بعد أن ملئت ظلما وجورا». والحق أن الانتظار والتطلع إلى النجاة و»يوم الخلاص» مكوّن أساسي في الاعتقاد الشيعي، حتى جاء في بعض الروايات الشيعية أن «انتظار الفرج عبادة»، بل إن «أفضل العبادات انتظار الفرج» (يوم الخلاص، ص220). ويفترض هذا الانتظار أن الدنيا ملأى بالظلم والجور والألم والمعاناة، وأن البشر عاجزون عن إنقاذ أنفسهم بأنفسهم، ولهذا فإنه مكتوب عليهم أن يعشيوا ليل نهار وهم ممسكون برقبة الأمل في النجاة التي لا تتحصل عادة إلا بتدخّل إلهي معجز يأتي في آخر الزمان. وأتصور أن هذا التطابق بين الانتظارين (المحلي/ الواقعي والاعتقادي) هو الذي عمّق هذه التجربة في الذهنية الجماعية لدى شيعة البحرين، وهو تطابق خبره شيعة العراق وشيعة لبنان إبان الحكم العثماني، وتجدد مع شيعة العراق إبان حكم حزب البعث.
وإذا كانت الدنيا ملأى بالظلم والجور والمعاناة فإن معنى هذا أن هذه «الشرور» ليست طارئة على الدنيا، وليست طارئة على الجماعة التي تؤمن بهذه الفكرة. ويترتب على هذه الفكرة أن على هذه الجماعة أن تعيش دائما تحت وطأة الشعور المزمن بالشرور القدرية التي تلازمها ولا خلاص لها منها إلا في آخر الزمان. وهذا ما يجعلها تشعر دائما بأنها تعيش في آخر الزمان، وقريبة من يوم الخلاص و»زمن الظهور»، حيث نهاية العالم، ونهاية شروره، ونهاية حالة الانتظار الطويل.
يمكن للإيمان بهذه الفكرة أن يعمّق الإحساس القدري في نفوس أبناء هذه الجماعة، إلا أن الوظيفة المهمة التي تضطلع بها هذه الفكرة هي أنها تهيّئ أصحابها للصبر على المكاره وتحمّل كل معاناة الدنيا بعزيمة لا تلين. فإذا كانت المعاناة قدرية فإن النجاة حتمية لا محالة في آخر الزمان، وآخر الزمان لحظة مجهولة في زمان مقبل قد تكون اليوم أو غدا أو بعد قرن، ما يعني أن النجاة حتمية وقد تأتي في أي وقت، ومما يروى عن الإمام الصادق قوله: «أن من انتظر أمرنا وصبر على ما يرى من الأذى والخوف هو غدا في زمرتنا» (الكافي، ج:8، ص37). وهذا ما يجعل الأمل اليقيني في النجاة مكوّن أساسي في الاعتقاد الشيعي، وبتعبير روبير بندكتي فإن الفكر الشيعي يتمحور «حول فكرة الألم المنجي» والمنقذ (الشعائر بين الدين والسياسية في الإسلام والمسيحية، ص120) أي حول فكرة أن للظلم والجور والألم «مفعولا خلاصيا وقوة نجاة» حتمية.
إلا أن هذه الفكرة لم تعمّق ثقافة الأمل اليقيني في النجاة لدى شيعة البحرين، بل بقي هؤلاء يعيشون تحت وطأة الشعور المزمن بالهشاشة، والخوف المتجدد بأن وجودهم وهويتهم مهددين بالاقتلاع والانطفاء. بل سيجرى تنشيط هذا الشعور وهذا الخوف في كل مرحلة من مراحل الاضطراب السياسي العام في البلاد، كما أنه سينمي لدى الناس إحساسا عاما باليأس وبالعجز عن دفع هذا المصير، الأمر الذي سيعزز الإحساس القدري في نفوس هؤلاء إذ يشعر المرء بأن القدر يتآمر عليه، وأن لا سبيل أمامه للفوز بمعجزة النجاة من هذه المؤامرات والشرور القدرية إلا بمساعدة عزيزة قد تأتيه من قوى خارقة، إلا أنها هذه المرة ليست قوى «إلهية» معجزة، بل هي قوى بشرية موجودة في هذه الدنيا المملوءة بالظلم والجور والألم. وتمثّلت هذه القوى في بداية القرن العشرين في الإنجليز، وفي أواخر القرن في الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية والحقوقية الدولية. وأتصور أن هذا هو الإطار الحقيقي الذي ينبغي من خلاله فهم علاقة الشيعة مع الإنجليز في بدايات القرن العشرين.
يمكن لليأس، في الحالات العادية، أن يتحوّل إلى لامبالاة إذ يشعر المرء أنه ليس لديه ما يخسره، إلا أن الخوف المتجذر من الفناء وانقراض الهوية كان يمنع شيعة البحرين من الذهاب بعيدا في هذا الخيار؛ بحكم أن لدى هؤلاء شيء عزيز يمكن أن يخسروه إذا ما ذهبوا في اندفاعة اليأس واللامبالاة إلى أقصاها، وهذا الشيء العزيز هو الحياة والوجود والهوية. لقد عاش هؤلاء تجربة اقتلاع قاسية كادت أن تمحو ذكرهم من الوجود، ولهذا ظلّت هذه التجربة حاضرة في متخيلهم بإلحاح كذكرى معذّبة يمكن أن تتكرر مع أي اضطراب سياسي حاد في البلاد. وتكشف رسالة رفعها نخبة البحارنة في العام 1923 إلى المعتمد البريطاني عن تقدير هؤلاء الكبير لنعمة الحياة والوجود التي لا تعدلها نعمة مهما كانت، بل لم يكن هؤلاء يتعاملون مع السياسية إلا بوصفها وسيلة لتحقيق مقصد ثمين هو «سلامة الأنفس أولا وتنظيم أمور المعايش من بعد، حيث لا خير في الثاني مع إخلال الأول؛ لأن العبرة من حفظ الثغور سلامة الأنفس» (البحرين 1920 - 1971، ص335).
ولا يعني العيش تحت هاجس الخوف المقيم من الفناء وانقراض الوجود أن يبقى المرء مرعوبا ومذهولا باستمرار فحسب، بل يعني كذلك أن المرء المهدد يكون مستعدا لتفسير كل «حادث» على أنه «كارثة» تستهدف وجوده وهويته. وجرى التصريح بالخوف من الفناء في عريضة رفعها وفد من شيعة البحرين إلى المقيم السياسي البريطاني في زيارته إلى البحرين في 21 ديسمبر/ كانون الأول 1921، وفي هذه العريضة استعراض إجمالي لما يتعرض له شيعة البحرين من ظلم و»إذلال». إلا أن المهم في هذه العريضة هو خطاب الالتماس الذي رفعه الوفد إلى المقيم السياسي من أجل التدخل السريع لإنقاذ الشيعة من الفناء، وقد جاء الطلب بهذه الصورة: «أنقذنا، يا رئيس، قبل أن نفنى (...) فقد نفد صبرنا وطاقتنا. وإذا تركنا هذا الملجأ ولم يساعدنا الرئيس فإننا نواجه الموت، وسيكون هو مسئولا أمام الله» (البحرين 1920 - 1971، ص21). والحق أن إصلاحات العام 1923 قد أمّنت المطلب الأول لهؤلاء أي «سلامة الأنفس»، ما جعلهم يشعرون بالأمن على أنفسهم وأموالهم، وبهذا تمكّن هؤلاء من تجاوز خوفهم المزمن على وجودهم. الأمر الذي سيجعل نشاطهم ينصبّ منذ أواخر العشرينات على تأمين المطلب الثاني وهو «تنظيم أمور المعايش». وبما أن «أمور المعايش» مشتركة بين الجميع سنة وشيعة، فإن هذا مهّد لخروج هؤلاء من عزلتهم الاجتماعية الطويلة، وسمح لهم بالانخراط في المطالب العمالية منذ أواخر الثلاثنينات، وفي المطالب الوطنية الجامعة منذ العام 1954 حتى أواخر السبعينات. ولم تكن كل هذه العقود الممتدة من الثلاثينات إلى السبعينات لتمضي من دون أن تغيّر بنية الشعور الجماعي لدى هؤلاء. فالتحرر من أسر الخوف على الحياة قد حرّر هؤلاء من مزاجهم السلبي المستسلم للقَدَر. وقد لاحظ تشارلز بلغريف شيئا من هذا التغيّر حين كتب في مذكرات يوم الأحد 5 مايو/ أيار 1929 أن «الإشكال الذي نواجهه دائما أن أهل القرى أصبحوا متكبرين ومزعجين منذ اليوم الذي أعطاهم ديلي كل الصلاحيات» (تشارلز بلغريف: السيرة والمذكرات، ص225).
إلا أن هذا المزاج العنيد الذي يتحدث عنه بلغريف سيتعرض لانتكاسة كبرى في الثمانينات، وسيتزعزع كيانه بقوة بعد تفجّر حوادث التسعينات من القرن الماضي. وهذا ما سيبعث من جديد ذلك الشعور المزمن بالهشاشة. واللافت حقا أن ثمة رسالة كتبت وأرسلت إلى الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان، وحرّرها شخص باسمه ونيابة، حسب ما جاء في الرسالة، عن «الطائفة الشيعية في البحرين» في 17 يونيو/ حزيران 1997م، ولا تختلف هذه الرسالة في أسلوبها وفي مضمونها العام وخوفها من الفناء واقتلاع الهوية عما كان في عريضة شيعة البحرين للعام 1921، فهي عبارة عن خطاب شكوى من كثرة المظالم الواقعة على شيعة البحرين، واختتمت الرسالة بالتماس من أجل التدخل السريع لإنقاذ الشيعة، تقول: «نرفع إليكم هذه الرسالة راجين من هيئة الأمم المتحدة الحماية والتدخل لوقف النزيف وإنقاذ الشيعة في البحرين (...) ونناشد كل من له ضمير حي ويحس بمأساة غيره المسارعة لإنقاذ شعب (يتعرّض) (...) لمحو هويته ونسخ قيمه ومبادئه» (من وثائق التسعينات).
هذا إذا شعور بالهشاشة عريق ومتطاول، وهو يعبّر عن نفسه بطرائق مختلفة، وظل هكذا يغيب ويحضر إلى أن استحكم في العقدين الأخيرين من القرن العشرين. إلا أن ثمة تغيّرا طرأ على هذا الشعور بعد حقبة الانفراج السياسي التي مرّت بها البلاد منذ العام 2001، وهذا التغيّر هو التحول من هاجس الخوف من الفناء وانقراض الوجود والهوية إلى هاجس الخوف من التحول إلى أقلية. فقد صار هذا الخوف الأخير هو الهاجس المستحكم والضارب في الوجدان الجماعي لدى هؤلاء منذ العام 2002. وكان «ملف التجنيس» هو العنوان الأبرز الذي فتح هذا الخوف على مداه. وهو خوف تعزّز بانتشار تقارير تتحدث عن خطط واستراتيجيات ومؤامرات تستهدف شيعة البحرين وتسعى إلى تحويلهم إلى أقلية غارقة في محيط «مجنّس» متلاطم الأمواج!
وللحديث صلة في الأسبوع المقبل.
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1782 - الإثنين 23 يوليو 2007م الموافق 08 رجب 1428هـ