لقد تطرّق المقال الأوّل من سلسلة المقالات هذه المتعلقة بإدارة المياه الجوفية في دول مجلس التعاون إلى اعتماد دول مجلس التعاون على مياه جوفية غير متجددة (أحفورية) بشكل كبير في تلبية متطلباتها المختلفة، وتم الإشارة إلى امتلاك هذه الدول لمخزون كبير نسبيا من هذه المياه في الطبقات الجوفية العميقة، قدرته بعض الدراسات بأكثر من 530 مليار متر مكعب، يقع معظمه في المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان وبدرجة أقل في الإمارات العربية المتحدة، وبأن هذه المياه قد تم تخزينها في الطبقات الجيولوجية العميقة منذ عشرات الألوف من السنين عندما كانت أرض الجزيرة العربية تتمتع بمناخ جغرافي رطب، وتعتبر تغذيتها في الوقت الحاضر شبه معدومة.
وبسبب غياب تنظيم استخدام المياه الجوفية في العقود الثلاثة الماضية والاستخدام العشوائي وغير المدروس لهذه الموارد لتلبية المتطلبات المائية المتعاظمة الناتجة عن التنمية المتسارعة التي مرت بها هذه الدول، وخصوصا التنمية الزراعية وسياسات الاكتفاء الذاتي من الغذاء لسد متطلبات الزيادة المتعاظمة للسكان، فلقد تم استخدام موارد المياه الجوفية، وخصوصا غير المتجددة منها بشكل مكثف، ما أدى إلى نضوبها بمعدلات سريعة وتدهور نوعية مياهها بشكل مستمر. وحاليا يعتمد القطاع الزراعي في دول المجلس على ما نسبته 81 في المئة من المياه الجوفية غير المتجددة، أو ما يعادل 13.3 مليار متر مكعب في العام من هذه المياه، بينما تزود هذه المياه القطاع البلدي في دول المجلس بنحو 2.1 مليار متر مكعب/ العام.
ومما لا شك فيه أن لهذه الموارد المائية عمرا محدودا وستنضب في نهاية الأمر مع الاستخدام المستمر لها، ويخشى المختصون في دول المجلس أن استخدام مخزون هذه المياه غير المتجددة بهذا الشكل العشوائي غير المخطط له والسريع ولأغراض ذات قيمة اقتصادية متدنية سيؤدي إلى ضياعها وتقييد الخيارات المتاحة للأجيال القادمة بتقلص فرص استثمارها المستقبلية لأغراض ذات قيمة مضافة أعلى، أضف إلى ذلك خسارة المخزون الاستراتيجي من المياه لهذه الدول، وزيادة كلف توفير المياه من المصادر البديلة (التحلية)، وزيادة تفاقم المشكلة المائية في دول المجلس عموما.
وفي الحقيقة، تمثل إدارة المياه الجوفية غير المتجددة معضلة كبيرة لمتخذي القرار في دول المجلس، ومن الصعب تطبيق مفاهيم ومبادئ الإدارة المستدامة المياه الجوفية التقليدية عليها. ففي حين من السهل وضع تعريف واضح فيزيائي لـ «استدامة المياه الجوفية المتجددة» ويمكن تطبيقه عمليا مثل أن تكون كمية المياه المسحوبة سنويا من هذه المياه مساوية أو مقاربة لمعدل التغذية التي تتلقاها سنويا، فإن وضع تعريف لـ «استدامة المياه الجوفية غير المتجددة» يتسم بالتعقيد والصعوبة ويمثل تحديا لمديري هذه المياه، ويحتاج إلى دراسات متأنية ومعمقة تشمل الكثير من الجوانب الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية.
بمعنى آخر، أن قضية استدامة هذه الموارد يجب أن لا تفسر من منظور فيزيائي فقط، وإنما يجب أن تؤخذ كذلك من منظور اجتماعي واقتصادي، كما يجب أن لا تأخذ في الاعتبار المنافع الآنية قصيرة المدى من استخدام هذه الموارد فقط، وإنما كذلك التأثيرات السلبية التي ستنتج عن هذا الاستخدام على المدى البعيد، والأهم من ذلك كلّه الأخذ في الاعتبار السؤال «كيف سيكون الوضع بعد نضوب المصدر».
وبتفصيل أكثر، هناك ضرورة لتحديد وصوغ استراتيجيات إدارية خاصة لاستثمار هذه المياه غير المتجددة، بحيث يتم تنفيذها منذ الآن وحتى الوصول إلى المرحلة الخطرة من نضوب هذه الموارد، على أن تشمل هذه الاستراتيجيات خيارات اجتماعية واقتصادية متوازنة لاستخدام مخزون هذه الموارد غير المتجدد بالشكل الأمثل وبالقيمة المضافة الأعلى، وعلى كيفية التحول لاحقا إلى أنشطة اقتصادية تعتمد بشكل أقل على هذه المياه غير المتجددة أو على المياه عموما، ومصادر المياه المستقبلية البديلة التي ستحل محل هذه الموارد الناضبة (مياه الصرف الصحي المعالجة والمياه المحلاة والمياه المائلة للملوحة) للاستخدامات المختلفة فيها.
وللأسف، فإنه في دول المجلس يستمر استغلال المياه الجوفية غير المتجددة وتعدينها من دون وجود هذه الاستراتيجيات، وغير معروف ما هو مستقبل الأنشطة الاقتصادية عندما تنضب هذه المياه في المستقبل، وخصوصا الأنشطة الزراعية التي تعتمد على هذه المياه بشكل رئيسي، كما أنه غير معروف ما هو المصدر المائي البديل لهذه المياه لسد الاحتياجات المائية المستقبلية لهذه الدول. وحاليا، يتم استخدام معظم هذه المياه الجوفية غير المتجددة في الري لإنتاج محاصيل زراعية منخفضة القيمة وبكفاءة ري منخفضة تصل إلى 50 في المئة. وتقدر بعض المصادر أن نحو 35 في المئة من الموارد المائية الجوفية غير المتجددة في المملكة العربية السعودية قد نضبت بالفعل في العام 1995. ولذا فإن هناك حاجة ملحة أن تبدأ دول المجلس في وضع هذه الاستراتيجيات المهمة للاستثمار الأمثل لمخزون موارد المياه غير المتجددة التي تمتلكها خلال الفترة الزمنية المتاحة لها لهذا الاستغلال.
وأيا كانت طبيعة هذه الاستراتيجيات وخططها التنفيذية، فإن هناك إجراءين أساسيين لابدّ من القيام بهما قبل وضع هذه الاستراتيجيات، الأول هو التقدير الصحيح لحجم المخزون المائي داخل أنظمة المياه الجوفية غير المتجددة وكمية المياه المتاحة للاستخراج منه، والثاني هو العمل على خفض معدلات السحب من هذه المياه الجوفية ومنع الهدر منها بالقدر المستطاع، ما يستدعي تطبيق إجراءات إدارة الطلب، سواء التشريعية أو الاقتصادية أو التقنية، على استخداماتها المختلفة لتقليل الفواقد. وسيتطلب وضع هذه الاستراتيجيات التقييم الشامل للاستخدامات الحالية لهذه الموارد غير المتجددة والاستخدامات المحتملة لها حاليا ومستقبلا، والنظر في الإجراءات اللازمة لزيادة القيمة الاجتماعية والاقتصادية المضافة وتعظيم المنفعة المجتمعية من هذه الموارد.
بالإضافة لذلك، فإنه من المهم أن يتم القيام بحملات توعية بشأن طبيعة هذه الموارد غير المتجددة للمجتمع ككل، والمستخدمين الحاليين لها خصوصا، وتوضيح قضية نضوبها الحتمية والمشكلات المستقبلية التي ستنشأ من استمرار استخدامها بهدف إنشاء وعي وظروف اجتماعية تساعد على إدارة هذه الموارد وتسهل من اتخاذ الإجراءات الإدارية المطلوبة وتزيد من مشاركة المنتفعين وتساعدهم على التكيّف مع الظروف المستقبلية التي سيواجهونها عند نضوبها.
وأخيرا، فإن من أهم الركائز الأساسية لإدارة هذه الموارد الناضبة هو اعتبارها من الأملاك «العامّة» التي تمتلكها الدولة، كالنفط تماما، بدلا من الملكية الخاصة المعمول بها حاليا في معظم دول المجلس، بحيث تكون الدولة، ممثلة في أجهزتها المسئولة عن المياه، مؤتمنة على إدارتها والمحافظة عليها نيابة عن المجتمع، ولها الصلاحية في اتخاذ الإجراءات التنظيمية اللازمة لمنع سوء استخدامها وتلوثها وحمايتها من الاستنزاف. كما أنه من المهم أن يتم التعامل مع هذه الموارد الحيوية في دول مجلس التعاون واتخاذ القرارات بشأنها وفي طريقة تعدينها على أرفع المستويات في الدولة؛ أي على مستوى مجلس الوزراء، للحصول على الإرادة السياسية المطلوبة وللتنسيق المطلوب للتنمية الاجتماعية والاقتصادية لمستخدميها.
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1780 - السبت 21 يوليو 2007م الموافق 06 رجب 1428هـ