قالت العرب: «الراحة في الراحة»، وقيل في معاجم اللغة: الراحة هي وجدانك السرور الحادث عن اليقين، وهي الكف أو باطن اليد، وهي معان أخرى. كغيره من الأقوال البليغة تناقلت الألسن قول «الراحة في الراحة» وأبدعت المساحات البلاغية الشاسعة للغة العربية تفسيراته. فلغة الضاد بغنى مفرداتها ونفائس معانيها تحوز الكثير من التراكيب البلاغية التي تفرش الدرب بكثير الخيارات والكثير المعاني وتولّد أنماطا من الجدل اللغوي والفكري خاضها على مر العصور اللغويون والمفكرون والفلاسفة والعلماء، ووجد كل منهم مساحة فيه تلائم اهتماماته وانشغالاته. مقولتنا مثال على جدل لغوي فلسفي ونفسي دار بين أكثر من فريق فأمسك كل طرف بالمقولة وذهب في تفسيرها بالمعنى المتوائم مع رؤاه وقناعاته في الحياة.
ظاهر المعنى وأبسطه يرى في الراحة التحرر من أي ثقل بدني أو عقلي أو نفسي يطرأ في الحياة، ويذهب إلى تفسير القول وفق هذا الظاهر الأبسط فالتحرر من أثقال الحياة وضغوطها هو الراحة بعينها. وقد يقصره السذج من القوم على الراحة الجسدية بعد تعب عضلي وذلك لا يحمل سوى شق من ظاهر معنى الراحة وأبسطه. إذ كيف يمكن أن يحيا المرء متحررا من ثقل أي عمل بدني أو جهد عقلي أو قلق نفسي؟ هل للمرء أن يحقق هذا النمط من الراحة؟ نحسب أن ذلك محال إن لم يتيقن المرء من ذاته ويقف على قدراته ويعرف ما يريد. ظاهر المعنى وأبسطه - إذا - ليس هو المراد بالقول ولا ريب أن هناك تفسيرا آخر.
في معناها المعجمي الراحة هي وجدان السرور الحادث عن اليقين بمعنى لا مسرة في الحياة تضاهي مسرة المرء حين بلوغه مستوى التيقن. والتيقن هو المعرفة بالأمر كما هو جار الآن وكما سيكون في المستقبل المنظور. وتلك المعرفة تبعد المرء عن التخوف والتردد والقلق وتقربه من الثقة والتوازن والثبات والإقدام، فينعم بسكينة تدعى راحة المرتاح المدرك تماما لما له وما عليه، لما أمامه وما خلفه، هو ذلك الذي عرف ذاته وقَدراته وتدبر حياته وفق إرادته. هنا تكمن الراحة الإنسانية وهذا الفهم للراحة هو الذي يجمع بين الراحتين في القول المأثور، فالأولى هي السرور الحادث عن اليقين والثانية هي كف اليد بكناية عن أن راحة الإنسان بيده ورهن قراره وبإمكانه أن يحقق تلك الراحة متى ما أصبح سيد نفسه وموقفه. هكذا جمعت روعة بلاغة العرب معنيي الكلمة في تركيبة فلسفية ونفسية واحدة.
على أن هناك من فسّر القول - وفق هواه ومبتغاه - فجرّد الراحة الثانية من تائها المربوطة وأجرى القول مجرى «الراحة في الراح» كالساري في تحليل الحرام وتحريم الحلال. فالراح هي الخمر كقول الشاعر:اسقني الراح...، أو دارت الراح انتشينا... وهو بذلك يروم القول: من يعاقر الخمر يأنس. على أن هذا التفسير يتداعى أمام منطق تفسير الراحتين، وأُنسُ الخمر ليس أكثر من دفن شقاء أو همّ لسويعات، يفيق المخمور بعدها ليواجه عجزه ويصطدم بواقع لم يزل يمسك بتلابيبه ولا يدع أمامه فرصة لا للارتياح النفسي ولا العقلي ولا حتى الجسدي.
أما السرور الحادث عن اليقين فهو بين يدي الإنسان ويمثل الراحة الأعم والأكمل. سأملكُ الراحة في راحتي إن تيقنت من طريقي وآمنت به وسعيت إليه. راحة الإنسان في يده، فليبحث عما يوفر له راحة الضمير والرضا عن الذات. فقد تكمن راحة الإنسان في تحقيق طموحاته أو في تحمله للمسئوليات المنوط بها أو في أداء واجباته أو في المطالبة بحقوقه. وقد تكمن في عطائه للآخرين أو في تقبله للآخر وكسبه علاقات وطيدة أو في التحلي بالتسامح والمحبة واحترام الغير، وربما تكمن في هذا كله. «الراحة في الراحة» تعني التيقن من امتلاك ناصية الحياة والقدرة الذاتية الواثقة على اتخاذ القرار في منعطفاتها. إلا أن شروط التيقن لم تعد - في عالم اليوم - بسيطة سهلة المنال، فبتعقد الحياة وتنوع ضغوطها يصطرع الإنسان ليس مع المؤثرات المحيطة فحسب بل ومع ذاته القلقة المنهكة المتطلعة للراحة. كما أن الجاري من تقدم تقني متواتر يقلق الإنسان ويكاد ينتزع قراره من راحته. التقدم الهائل في الاتصال ونقل المعلومات أودع هموم العالم كلها بين يدي الإنسان/الفرد وأوقعه نهبا لكل طارئ مقلق في الحياة. ولا مناص هنا من بحث الإنسان عما يريد هو، أين يضع قدمه، ما هي أهدافه وخط سيره وكيف يصل لمبتغاه.
الراحة بالمعنى الذي ذهبنا إليه هي ذاتها الراحة النفسية التي عنيت بها الفلسفات القديمة والحديثة ودرستها وما زالت العلوم والنظريات النفسية واضعة إياها على رأس عوامل التماسك النفسي والصحة النفسية. وذلك هو جوهر الصحة النفسية التي يتحدث عنها العلماء والنظريات النفسية باعتبارها السلوك الملائم للمواقف التي يواجهها الفرد. وبشيء من التفصيل، فالصحة النفسية هي خليط من توافر حد جيد من الصحة الجسمية وقدر من التكيف وحيازة قيم أخلاقية واجتماعية.
هنا قد يُطرح السؤال: كيف نبلغ الراحة في عالم يميل فيه ميزان العدل ويعم فيه الظلم؟! كيف يرتاح مسلوب الحقوق؟!. الرد - بظننا - في المعنى الذي قصدنا بأن الراحة هي يقين الإنسان بأنه يحمل مصيره وقراره في كفه. فهو يعرف ما يريد ويسعى إليه بملء إرادةٍ يقبض عليها بيده. متى ما تيقن الإنسان من ذاته وقدراته حتما سيخطط لتغيير أوضاعه. وإن بلغ المرء حد التيقن من ذاته وما حوله، فهو سيدرك أن ليس بالمقدور تغيير واقع الظلم بجرة قلم. مواجهة مواقع الظلم وتحجيمها بحاجة لما يكفي من ثقة واستعداد ووقت وجهد وأخلاق إنسانية.
راحة الإنسان رهن يده، راحتك في راحتك... في يدك.
إقرأ أيضا لـ "فوزية مطر"العدد 1779 - الجمعة 20 يوليو 2007م الموافق 05 رجب 1428هـ
الراخه هي اراحه
انا مرتاح والحمدلله