بدء الفلسفة. هل هناك نقطة بدء؟ الفكرة غير صحيحة لأنها مخالفة للتاريخ والعقل. فالمعرفة تراكمية. والفلسفة لا تهبط بالمظلات على الواقع. ومسألة ربط الفلسفة بالترجمات وحركة النقل والتعريب فكرة خاطئة لأنها تعد التفلسف مجرد تركيبات نظرية لا صلة لها بالتطبيق والحاجة. تجريد الفلسفة من وظائفها التاريخية والسياسية أدى إلى عزل القراءة عن سلسلة حلقات تراكمت معرفيا واستقرت في محطات زمنية ثم تفرعت لتستقر مجددا وتتطور وفق سياقات متنوعة.
من الصعب تصوّر نهوض الفلسفة من فراغ أو بسبب إسقاطات نظرية مجردة عن الواقع. وهذا التصوّر لا ينطبق على الفلسفة العربية/ الإسلامية فقط وإنما أيضا يمكن سحبه على كل الحركات والمدارس الفلسفية في الصين والهند وبلاد فارس وبلاد الرافدين ومصر وبلاد الروم واليونان (الإغريق) وبيزنطيا والحقبة الهلينية والاسكندرانية. فكل الرموز والأعلام والوجوه التي أطلت على العالم الفلسفي جاءت عقب تراكمات معرفية تسلسلت أو تطورت في محطات وتفرعات إلى أن نجحت في صنع منظوماتها الخاصة وصولا إلى تأسيس الاستقلال عن مجموعات أخرى في المحيط الجغرافي أو البيئة الثقافية الجوارية.
هذا القانون المتدرج في خطواته ينطبق في خطوطه العامة على مسألة البدء بظهور الفلسفة العربية/ الإسلامية. فالتوقيت مهم ولكنه ليس بالضرورة يمكن ضبطه ضمن مهلة زمنية. وموضوع الفلسفة الإسلامية الذي ازدهر بدءا من القرن الثاني للهجري لم يكن بإمكانه أن يتطور ويصل إلى المكان الذي وصل إليه لو لم تسبقه بيئة ثقافية أوجدت الأسس المعرفية التي تهذب عقل الإنسان وتصقله تمهيدا لاستيعاب الوافد (الجديد والمحدث).
لذلك من الخطأ التاريخي والمعرفي ربط ظهور الفلسفة العربية/ الإسلامية بالكِنْدي واعتباره كما ذهب ابن النديم في كتابه «الفهرست» فيلسوف العرب الأول. ومن الخطأ أيضا ربط الفلسفة الإسلامية بظاهرة الفارابي (المعلم الثاني) كما ذهب صاعد الأندلسي في كتابه «طبقات الأمم» واعتباره «الفيلسوف الحقيقي». الفلسفة العربية/ الإسلامية بدأت قبل تلك الفترة باعتبار أن التفلسف لا يرتبط بالنظرية (الترجمة والنقل والتعريب) بقدر ما يرتبط بالحاجة وصلة الحاجة بالواقع (التاريخي والمعرفي) والوظائف المترتبة على كل فكرة تقال. فالقول في النهاية لا يأتي من فراغ ولا يسقط بالمظلات على الأرض ويفرض نفسه وإنما يقال ردا على قول مخالف وتلبية لحاجة إنسانية.
تجريد الفلسفة من وظائفها ساهم في تشطير التاريخ العربي وتحقيبه إلى فترات زمنية غير مترابطة. وهذا التجريد ربما يكون السبب الذي أملى على ابن النديم إطلاق لقب «فيلسوف العرب الأول» على الكِنْدي والسبب نفسه يقف وراء إطلاق صاعد لقب «الفيلسوف الحقيقي» على الفارابي.
الكِنْدي مثلا وضع ستة تعريفات لمفهوم الفلسفة. واعتبرها في المجموع العام «صناعة الصنائع وعلم العلوم». وإذا كانت الفلسفة وفق التعريف الأرسطي (أرسطو) هي «صناعة الصنائع» فمعنى ذلك أنها تشكلت من فروع متعارضة اجتمعت في دائرة واحدة. وإذا كانت «علم العلوم» فمعنى ذلك أنها تكونت منهجيا من التقاء قطاعات مختلفة من المعارف أعيد ربطها في منظومة مشتركة تجاوزت المنطلقات الأولى التي وفدت إليها.
تعريف «صناعة الصنائع» أو «علم العلوم» يقطع الشك بعدم وجود محطات تطورية تصاعدية تلعب دورها في «التصنيع». وبما أن التصنيع مسألة مركبة تقوم على عمليات الصهر (التذويب) ثم الصب (التعدين) فمعنى ذلك أن الزمن يلعب دوره في تهذيب العقل وتنظيمه وإعادة صقله (هندسته) وفق مناهج التحليل والتركيب. وهذا المجرى الزمني للفلسفة يعطي للفكرة بعدها التاريخي ويعيد ربطها بالحاجة والدور والوظيفة وإلا لكانت الفلسفة فقدت معناها منذ زمن بعيد. وبالعودة إلى كتاب «الفهرست» نجد أن ابن النديم أورد في موسوعته عشرات ومئات العناوين لكتب متداولة في عصره أو مخطوطات ورثها الأبناء عن الآباء عن الأجداد تطرقت إلى موضوعات مختلفة وخاضت في حقول شتى. وكل هذا السيل الذي أوجده ابن النديم في «الفهرست» سبق ولادة الكِنْدي وإضافاته الفلسفية. وأيضا ذهب صاعد في «طبقات الأمم» في الاتجاه نفسه حين أرّخ للفكر العربي وحدد موضوعاته وصولا إلى الكِنْدي.
الكِنْدي إذا ليس «الفيلسوف الأول» في المعنى التاريخي ولكنه ربما يكون «الأول» في السياق الوظائفي إذ نجح في استخدام الترجمات (حركة النقل والتعريب) وتنسيقها في نظام منهجي (رياضي) مستفيدا من الإنجازات والابتكارات والتحديثات والتراكمات المعرفية التي سبقته على امتداد قرنين من الزمن. فالكِنْدي عاصر شيوخ المعتزلة واتصل بهم وتعايش معهم وتميز عنهم. والكِنْدي الرياضي استخدم علم العدد والرياضيات لتنظيم منهجه الفلسفي. فهو ولد في زمن أنجز المسلمون خلاله ابتكاراتٍ أحدثت قفزة في علوم المنطق والرياضيات والهندسة. الفلسفة تصنيع، والتصنيع لا يتألف من مادة واحدة وإنما من مزج مجموعة موادَّ أولية وإعادة تركيبها في صورة معدنية (فكرية) متجانسة.
آنذاك كانت العلوم قطعت أشواطا في التقدم. فهي زمنيا سبقت الترجمات وحركة التعريب والنقل، كذلك نجحت في تجاوز الكثير من القطاعات وحققت اختراقاتٍ نوعية في حقول الصناعات النظرية والعقلية والرقمية. مثلا العالم الكيماوي جابر بن حيان توفي في العام 197 هـ (813 م) في الأيام الأخيرة من عهد الخليفة العباسي الأمين. وابن حيان رحل عن الدنيا قبل ولادة الكِنْدي. وعالم الرياضيات وواضع أسس علم الجبر (القديم والحديث) الخوارزمي توفي في العام 237 هـ (850 م) في عهد الخليفة المتوكل في وقت كان الكِنْدي يعمل على إنجاز مشروعه الفلسفي. وحين تكون «الفلسفة» صناعة مركبة من «صنائع» أو علما مؤلفا من «علوم» فمن الصعب عزلها عن الواقع وقطعها عن التاريخ وخصوصا في جانب التراكم الزمني للمعرفة. فالفلسفة ليست لقبا بقدر ما هي حاجة تتمتع بوظيفة ذهنية وإنسانية.
الكِنْدي إذا لم يسقط بالمظلات على أرض صحراوية قاحلة بالعلوم والمعارف والعمران وإنما بنى منظومته الفلسفية (صناعة الصنائع وعلم العلوم) على إرث متواصل الحلقات ذكره صاعد في «طبقات الأمم» حين صنّف العرب في مرتبة «الأمة السابعة» من حيث تراتبها الزمني في الظهور على مسرح التاريخ.
طبقات صاعد
كيف قرأ صاعد تاريخ العرب المعرفي وموقع الكِنْدي في سياق ذاك التطور؟ يرى «الفيلسوف» الأندلسي أن العرب في بداياتهم الأولى (ملوك حِمْير) كانوا غير معنيين بشيء «من علوم الفلسفة» كذلك «سائر ملوك العرب في الجاهلية» (ص 113). وكانت «أديانهم مع ذلك مختلفة» فكانت «حِمْير تعبد الشمس وكنانة القمر وتميم الديوان ولخم وجذام السهى (المشتري) وطي سهيلا وقيس العبور وأسد عطارد وثقيف وإياد تعبد بنيانا (بيتا) على نخلة يقال له اللات، ثم عبدت إياد وبكر بن وائل كعبة شداد. وكان لحنيفة صنم يعبدونه من حيس (خشب) فلحقتهم مجاعة في بعض السنين فأكلوه». ويعتبر صاعد أن «جميع عبدة الأوثان من العرب موحدة لله تعالى» (ص 116).
هذا على مستوى التدين الوثني. أما على مستوى العلوم فإن علمها «لسانها وأحكام لغتها ونظم الأشعار وتأليف الخطب» وكانت كذلك من «أهل علم الأخبار ومعدن معرفة السِّيَر والأمصار» (ص 118).
وكان للعرب أيضا «معرفة بأوقات مطالع النجوم ومغاربها وعلم بأنواع الكواكب وأمطارها» (ص 120). أما علم الفلسفة «فلم يمنحهم الله تعالى شيئا منه ولا هيأ طباعهم للعناية به ولا أعلم أحدا من صميم العرب شهر به إلا أبا يوسف يعقوب بن إسحق الكِنْدي وأبا محمد الحسن بن أحمد الهمداني» (ص 121). فالعرب في رأي صاعد ابتعدت اهتماماتها عن الفلسفة حتى في صدر الإسلام واكتفت «بلغتها ومعرفة أحكام شريعتها» إضافة إلى «صناعة الطب... لحاجة الناس طرا إليها». (ص 126-127).
وحين جاء العصر العباسي بدأت العناية بالعلوم الفلسفية بدءا من عهد الخليفة الثاني (أبو جعفر المنصور) إلى الخليفة السابع (المأمون) الذي أقبل «على طلب العلم في مواضعه واستخراجه من معادنه» (ص 128).
بعد هذه المقدمة التاريخية يبدأ صاعد تصنيف أشهر من اعتنى بعلوم الفلسفة، فذكر عبدالله بن المقفع (المنطق)، ومحمد بن إبراهيم الفزاري (علم النجوم)، والكِنْدي اشتهر «بأحكام العلوم والتوسع في فنون الحكمة» فهو «فيلسوف العرب وأحد أبناء ملوكها»، إذ لم يكن «في الإسلام من اشتهر عند الناس بمعاناة علوم الفلسفة حتى سمّوه فيلسوفا غير يعقوب هذا». (ص 134-135).
رأي صاعد لا يختلف كثيرا عن ابن النديم في قراءة الخط التصاعدي التاريخي لتطور العلوم عند العرب. فصاعد الذي ولد في الأندلس سنة 420 هـ (1029م) لعائلة تنتمي أصولها إلى قبيلة تغلب العربية وتوفي في 462 هـ (1070م) يُصنف الكِنْدي في دائرة «فيلسوف العرب الأول» وهو ما ذهب إليه قبله ابن النديم (توفي 438هـ/ 1047م) في كتابه «الفهرست».
إلا أن صاحب كتاب «طبقات الأمم» يقع في تعارض حين عدَّ الكِنْدي أول الفلاسفة ثم اعتبر الفارابي (الفيلسوف الحقيقي) ثم عاد وعَدَّ الكِنْدي من فريق النقل والمترجمين ووضعه في إطار واحد إلى جانب حنين بن إسحق وثابت بن قرة الحراني وعمر بن فرخان الطبري (ص 102). ثم يعود ويضع الحراني وقسطا بن لوقا والكِنْدي في دائرة الفلسفة و «كانوا ثلاثتهم أعلم من كان في مملكة الإسلام بعلم الفلسفة في وقتهم» (ص 103).
التعارضات التي وقع فيها صاعد ناتجة من اختلاط العلوم في عصره وعدم القدرة على التمييز بين المترجم (الناقل) للفلسفة، والمطلع عليها، والباحث فيها، والصانع لها. وبسبب الضياع المذكور اتجه صاعد إلى مهاجمة الكِنْدي وانتقاده بشدة حين تحدث عن مؤلفاته وعن رسائله. فهو يعتبره على مذهب أفلاطون وكتبه غير نافعة «لأنها خالية من صناعة التحليل».
أما في «صناعة التركيب» فهي لا ينتفع بها «إلا من كانت عنده مقدمات غيره» (ص 136).
صاعد إذا يضع الكِنْدي في درجة متدنية في صناعة الفلسفة ويرى أن الفارابي هو «فيلسوف المسلمين بالحقيقة» (ص 137). وكلام صاعد الذي جاء بعد أقل من ربع قرن على تصنيف ابن النديم الكِنْديَّ ووضعه في مرتبة «فيلسوف العرب الأول» لا من ناحية موقعه وإنما من جهة تراتبه الزمني يؤكد أن المؤرخين في تلك الفترة توافقوا منهجيا على ربط الفلسفة بحركة النقل والترجمة والتعريب وعزلها عن سياقات علوم الحقول الأخرى وما تعنيه من اهتمامات معرفية تتصل زمنيا بالحاجة والوظائف أو ما أطلق عليه الكِنْدي «صناعة الصنائع وعلم العلوم».
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1778 - الخميس 19 يوليو 2007م الموافق 04 رجب 1428هـ