لقد تأسس خطاب المعارضة الشيعية طوال الثمانينات والتسعينات على بعث مرويات المظالم والتعديات، وعلى تأكيد الطابع الاستثنائي والحاسم الذي يمثله العام 1783م. فقد حدّدت أدبيات الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين (تأسست في العام 1979م) هدفها في إسقاط النظام وإزالة «آثار الفتح» وإقامة نظام إسلامي وأمّة مؤمنة (الحركات والجماعات السياسية في البحرين، ص101)، بل إنّ اسم الجبهة بحد ذاته يقوم على تعيين صريح لهذه الأهداف، فاستخدام تعبير «الجبهة» و»تحرير البحرين» في العام 1979 يفترض أن البحرين لاتزال محتلة حتى بعد إعلان استقلالها عن بريطانيا في العام 1971. وعلى الصعيد ذاته كانت نشرة «صوت البحرين» الشهرية والتي تصدرها حركة أحرار البحرين الإسلامية (تأسست في لندن العام 1982)، ترصد مظالم «النظام» وتعدياته على «إنسانية الإنسان البحريني». وقد أعلنتْ في افتتاحية العدد الأوّل عمّا يمثله العام 1783 من مركزية حاسمة، إذ تحدّثت الافتتاحية عن نظام يحكم البحرين منذ «مئتي سنة»، وعن شعب مهدد يستنجد «أحرار العالم» (نشرة «صوت البحرين»، العدد:1، 1983، ص1).
وهنا ينبغي أن نذكّر بأن تأسيس حركة «أحرار البحرين» في لندن قد تزامن مع تطوّر مهم في المكتبة البريطانية التي فتحت أبوابها في العام 1973، وتمثّل هذا التطوّر في «إضافة مكتبة وسجلات وزارة الهند إليها في العام 1982»، واشتملت هذه السجلات على ملفات المقيمية السياسية في بوشهر (1763 - 1946)، وملفات الوكالة السياسية في البحرين، وملفات المحاكم. ولولا هذه السجلات ووثائقها لما تمكّن سعيد الشهابي من إنجاز كتابه في العام 1996 والذي أراد من وراءه قراءة تاريخ البحرين الحديث منذ مطلع القرن العشرين من خلال الوثائق البريطانية. والحق أن بعث هذه المرويات وما انطوى عليه الأرشيف البريطاني من توثيق للمظالم والتعدّيات إنما جاء في سياق أزمة الثمانينات والتسعينات؛ أي في سياق الأزمة التي خلقت المطابقة بين الشيعة والمعارضة. وتولّت أدبيات «الجبهة الإسلامية» هذه المهمة في الثمانينات، وعاضدتها منذ العام 1982 حركة «أحرار البحرين». في حين أن أحدا لم يجرؤ على القيام بمساءلة نقدية جدية لهذه المرويات، ولا في نقد أفاعيلها السلبية التي أسست لأزمة سياسية وثقافية متجذرة بحيث صارت تعيد إنتاج نفسها باستمرار في حياتنا السياسية والاجتماعية حتى بعد انقضاء السنوات العصيبة في الثمانينات والتسعينات.
إلا أنه ينبغي أن نعترف، في الوقت ذاته، بأن السياق السياسي المتأزم آنذاك لم يكن يسمح أساسا بمثل هذه القراءة النقدية، فمن جهة، كانت هناك معارضة شيعية متنامية تعرضت - هي وقواعدها الشعبية - لابتلاء قاسٍ دفع هؤلاء ضريبته بالتضييق والاعتقال والتعذيب والنفي القسري والاضطراري والموت تحت التعذيب. والحق أن هذا امتحان صعب مرّت به - وبدرجات متفاوتة - كل التيارات السياسية المعارضة في تاريخ البلاد، إلا أنه فعل فعله مع المعارضة الشيعية وقواعدها بحيث بدأ يتردّد بين هؤلاء أصداء ذلك الشعور المزمن بأن هويتهم مهددة بالانهيار، وأن وجودهم مستهدف بالاقتلاع. والمهم هنا ليس جدية هذا التهديد، بل جدية الشعور به، فحين تشعر جماعة ما بالتهديد الفعلي أو المتخيّل، فإنها تتعلّق بكل الحِبال المتاحة أمامها طلبا للنجاة وخوفا من انطفاء الوجود وانقراض الهوية. لقد كانت المعركة بالنسبة للمعارضة الشيعية إبان الثمانينات والتسعينات معركة وجود، والوجود هو دائما في حيّز الممكن، والممكن متأرجح دائما بين أن يكون وبين ألا يكون. هذه هي المسألة التي يمكن استخلاصها من أدبيات هذه المعارضة. وفي هذا السياق بعثت هذه المعارضة كل هذا التاريخ، وأسست لمركزية العام 1783م، وطوّرت استراتيجياتها في المقاومة الخطابية؛ أي المرتبطة بقوة الخطاب لا بالفعل واستراتيجياته. وعلى صعيد آخر كان الخطاب الرسمي وإعلامه يؤكد الطابع التأسيسي لهذا الحدث الذي مرّ عليه في العام 1983 قرنان كاملان. وكان الفرق بين الجانبين - الرسمي والمعارض - ينحصر في طريقة تحبيك هذا الحدث وما ينطوي عليه فعل التحبيك من تقييم الحدث موضوع التحبيك بالسلب (كما في خطاب المعارضة)، أو بالإيجاب (كما في الخطاب الرسمي). إلا أن الاثنين ينطلقان من اعتراف صريح بمركزية هذا الحدث وبطابعه الحاسم والتأسيسي في تاريخ البحرين الحديث. وبحسب أمل الزياني والشيخ عبد الله بن خالد آل خليفة وآخرين فإن تاريخ البحرين الحديث يبدأ في العام 1783م (مجلة الوثيقة، العدد 26، السنة 13، يوليو 1994، ص20).
إن التعامل مع هذه الوقائع وتلك المرويات انطلاقا مما تقتضيه «أخلاقيات التذكر» معقد للغاية؛ لأن «التذكر الكثير» لكل هذه الوقائع ومروياتها ينطوي على خطورة التضحية بالحاضر وإمكانات التعايش السمح فيه من أجل ماضٍ لم يعد اليوم موجودا. ومن جهة أخرى فإن تكذيب هذه المظالم ومروياتها ليس من الإنصاف في شيء. كما أنه ليس من المروءة والنبل الأخلاقي أن يقوم أحدنا اليوم بلوم الأهالي أو الإنكار عليهم في جزعهم وشكايتهم مما قاسوه من عذابات بفعل هذه المظالم والتعديات وأعمال السخرة. وذلك لسبب بسيط وهو أن هؤلاء كانوا يعيشون المظلومية ويتعاملون مع المظالم كمجريات يومية حاضرة، فيما نحن اليوم - بحكم المسافة الزمنية وتبدل الظروف - نتعامل مع هذه المظالم كخبر وتاريخ نضخمه أو نصغره كما نشاء أو كما تحكم الظروف والسياقات. وفرق هائل بين من يعيش المظالم وبين من يتعامل معها كخبر وتاريخ؛ لأن الخبر أو المسموع الماضي، كما يقول تقي الدين المقريزي (ت 1441م)، «لا يكون أبدا موقعه من القلب موقع الموجود الحاضر في شيء من الأشياء، وإن كان الماضي كبيرا والحاضر صغيرا؛ لأن القليل من المشاهدة أكثر من الكثير بالسماع» (المختار من إغاثة الأمة بكشف الغمة، ص36)، كما أن»القليل من المشاهدة أرسخ من الكثير من الخبر» و»مقاساة اليسير من الشدة أشقّ على النفس من تذكّر الكثير مما سلف منها» (ص35).
يقتضي الوفاء الأخلاقي، في حالتنا، الإصغاء باهتمام وتعاطف وإشفاق إلى ضحايا تلك المظالم، وإلى كل مَنْ ضاق ذرعا بتعديات تلك الحقبة حتى لو كانت هذه المظالم والتعديات في عداد «القليل من المشاهدة»، قياسا بالخراب والشتات القديمين اللذين صارا لدى شيعة البحرين بمثابة «الكثير بالسماع». إلا أن الذي حصل هو أن متخيّل تلك الحقبة قد دمج «الكثير بالسماع» مع «القليل من المشاهدة»، وكانت المحصّلة عبارة عن تحبيك سردي يتأسس على مأساة جماعية متصلة ابتدأت في العام 1783م، وهي مأساة ضياع الوطن وتشتيت الأهالي والتقويض الأبدي لانسجام هويتهم الثقافية.
وعلى هذه الصورة جرت المطابقة بين حوادث العام 1783م، وبين كامل الشتات والضياع والوقائع والحوادث المدمّرة التي حكمت تاريخ شيعة البحرين منذ العام 1717م. وهذه مطابقة مستحكمة، وصار من العسير زحزحة الوعي/اللاوعي الشيعي في هذه القضية، أو مجرد الافتراض بأن تاريخ اللعنة والزلزال والشتات والهزيمة وضياع الوطن وانسجام الهوية، كل هذا يعود إلى ما قبل العام 1783م، وأن لهذا الخراب والشتات سيرة ممتدة منذ العام 1717م. بل صار التطرق إلى هذا الموضوع من المحرمات الثقافية التي تجلب على صاحبها النبذ والإقصاء والتغريب ونعوت الذم من قبيل «العمالة» و»الخيانة» و«ممالأة النظام» و«السير في ركابه» و«التطلع لعطاياه»... إلخ.
لقد أسست هذه المرويات لإرشيف بالغ الثراء من المظالم والتعديات والخراب والشتات، إلا أنه - وفي الوقت ذاته - أرشيف بالغ التشويش والتداخل والاختلاط. وصار هذا الأرشيف الثري والمختلط بمثابة «متحف تذكاري» لتاريخ الإبادة الجماعية والخراب والشتات وضياع الوطن وانسجام الهوية. وقد صار هذا «المتحف التذكاري» للمأساة ذا وظيفة سلبية مزدوجة، فمن جهة صار يثير حفيظة نظام الحكم ويعمّق لديه النفور والامتعاض العام من كل ما هو شيعي. ومن جهة أخرى صار هذا «المتحف التذكاري» يثير مرارة شيعة البحرين وسخطهم المتجدد ضد السلطة. ويكفي أن تذكر سلسلة من مظالم تلك الحقبة في منتدى شيعي عام أو خاص حتى ترى الدم يغلي في عروق المشاركين كما لو كانت هذه المظالم تجري اليوم وتشاهد بأم العين!
تتحدث سوزان سونتاغ عن متحف الهولوكست التذكاري في واشنطن، وعن مطالبة الأرمن بإقامة متحف في واشنطن لتخليد ذكرى «إبادة الشعب الأرمني على يد الأتراك العثمانيين». إلا أنها تتساءل عن السبب وراء عدم التفكير في إقامة متحف تذكاري للعبودية في واشنطن، وتجيب بأن هذا المتحف الأخير يُنظر إليه في الولايات المتحدة الأميركية على أنه «خطر كبير جدا على الاستقرار الاجتماعي»، في حين أن متحف الهولوكست التذكاري والمتحف الأرمني للإبادة الجماعية والنصب التذكاري هي عن «أشياء لم تحدث في أميركا، ولذا فإن عمل الذاكرة لا يتضمن خطر إثارة سكان محليين يشعرون بالمرارة ضد السلطة» (الالتفات إلى ألم الآخرين، ص84 -85). وهنا أتساءل: إذا كانت الدول راسخة القدم في الديمقراطية والتعايش تشعر بخطر إثارة الذاكرة المحلية واستحضار متاحف الضحايا التذكارية، فكيف سيكون الحال في الدول طرية العود في الديمقراطية والتي عجزتْ عن تطوير أساليب التعايش المشترك فيما بينها؟ ألا ينطوي هذا النوع من التذكّر على كارثة حقيقية تهدد حتى هذا القدر الزهيد من التعايش القائم الآن بين هذه الجماعات؟ ألا ينطوي هذا النوع من التذكّر على التضحية بالحاضر من أجل هذا الماضي وذاكرته المثقلة؟
هذه إذا دعوة للتحلّي بالجرأة والشجاعة من أجل التحرّر من أسر هذا الماضي الذي صار يخلّف المرارة بمجرد ذكره وتذكره. وإذا ما ابتلينا بهذا التاريخ وذاكرته فإن علينا كذلك أن «نتعلم كيف ننسى»، وأن نتذكّر أن «النسيان واجب وإلا أصبحنا مجانين»، وأن نكون على وعي بأن تحقيق المصالحة والسلام والتعايش يتطلب شيئا من النسيان وأن «تكون الذاكرة ناقصة ومحدودة». وعلينا أن نتذكّر كذلك بأن لكل تاريخ، ولكل جماعة «جردة آثار» تصنعها «لحظات» حاسمة ومؤثرة في تكونها وسيرة تحولاتها، إلا أن «جردة الآثار» هذه تفترض، كما يكتب الناقد الهندي إعجاز أحمد، «أن ثمة «آثار أخرى تكون هذه الآثار متحابكة معها، وبحيث تكون الشخصية التي تبزغ من هذا التحابك، هذا التداخل، مشروطة لا بمجموعة محددة من الآثار فحسب بل بكامل تاريخها» (الاستشراق وما بعده، ص40). وبهذا المعنى فإن تشكل التاريخ البحريني وتحولاته لا يمكن قراءته انطلاقا من «جردة آثار» منعزلة ومستقلة ومتصدرة كعلامة على حدث استثنائي شكّل التاريخ البحريني مرة واحدة وإلى الأبد؛ لأن التواريخ والذوات - كما ينقل إعجاز أحمد عن غرامشي - «لا تتكون من خلال ما يدعوه غرامشي بـ«اللحظات»، بل من خلال سيرورات من الترسّب والتنامي التي تتراكم على الدوام» (ص40-41). أما ما تعنيه أطروحة إعجاز أحمد الغرامشية هذه فيما يتعلق بالبحرين فهو التأكيد على أنه لا يمكن قراءة التاريخ البحريني من خلال «جردة آثار الفتح» وعذاباته وجروحه الغائرة التي تنتصب كعلامة على حدث مفرد ومؤسس لهذا التاريخ بصورة نهائية. لقد مثّل حدث «الفتح» لحظة حاسمة في تاريخ البحرين، إلا أن هذا التاريخ لا يمكن قراءته إلا بوصفه سيرورة من «الترسُّبات» التي شكّلتها لحظات «الزلزال الأباضي» و«الاقتتال الداخلي» و»بناء الدولة» و«التنازع الطائفي والسياسي»، و»التدافع السياسي» من أجل الاستقلال والإصلاح. فكل هذه لحظات مهمة وحاسمة وتشكّل جزءا من سيرورة هذه الترسبات وتراكماتها.
من المؤكد أننا هنا أمام تاريخ، إلا أن الحساسية الشديدة التي ميّزت استجابات القراء لهذه الحلقات إنما تكشف أننا أمام تاريخ لم يجمع أوراقه ليمضي، ولم يطو صفحاته ليرقد بسلام بعدُ. وأتصوّر أن هذه الحساسية ستستمر ما لم ننجز واحدة من المهام الكثيرة غير المنجزة، وهي فهم هذا التاريخ من أجل تجاوزه. يمكن للفهم أن يمهّد لتجاوز هذا التاريخ أو على الأقل يمهّد لخلق مسافة معرفية تسمح بالتعامل معه بعيدا عن الحساسيات المتبادلة بين الجماعات.
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1775 - الإثنين 16 يوليو 2007م الموافق 01 رجب 1428هـ