العدد 1773 - السبت 14 يوليو 2007م الموافق 28 جمادى الآخرة 1428هـ

حماية المياه الجوفية من التلوث السطحي في دول مجلس التعاون (9)

وليد خليل زباري Waleed.Zubari [at] alwasatnews.com

وليد خليل زباري

كما ذكر سابقا في سلسلة المقالات المتعلقة بإدارة المياه الجوفية في دول المجلس، بأن موارد المياه الجوفية تمثل مصدرا رئيسيا لتلبية المتطلبات المائية لهذه الدول إذ تبلغ نسبة الاعتماد عليها أكثر من 75 في المئة، وبأن الاعتماد الكبير والاستخدام المكثف لها في العقود الماضية أدى إلى استنزافها في معظم دول المنطقة، وتمثل ذلك في هبوط مستوياتها وتدهور نوعيتها بسبب غزو المياه المالحة لها، ما أدى إلى فقدان جاهزية الكثير منها للاستخدام المباشر، بالإضافة إلى تدهور الأراضي الزراعية والبيئات الإيكولوجية المعتمدة عليها.

ومن جهة أخرى، وبالإضافة إلى استنزافها، تتعرّض المياه الجوفية في دول المنطقة إلى الكثير من تهديدات التلوث الناتج من الأنشطة السطحية (الزراعية والحضرية والصناعية...)، وذلك بسبب عدم وجود أنظمة متكاملة لحماية المياه الجوفية فيها، وعدم إدراج قابليتها للتلوث السطحي في عملية تخطيط استخدامات الأراضي. ويؤدي تلوث المياه الجوفية بواسطة الأنشطة السطحية إلى تقليص جاهزية استخدامات هذه الموارد المائية المحدودة أصلا، وفي النهاية إلى تفاقم وزيادة درجات الندرة المائية في دول المنطقة.

وحاليا، تتركز معظم الإجراءات الإدارية في دول المنطقة نحو تخفيف الضغوط على مصادر المياه الجوفية بغية تقليل سرعة تدهورها وإعادة تأهيل مستوياتها المائية ونوعية مياهها. ويتمثل هذا في محاولة تقليل السحب من هذه الموارد بواسطة الكثير من الإجراءات والأدوات الإدارية التنظيمية والتشريعية والاقتصادية والتقنية، بالإضافة إلى محاولة زيادة معدلات تغذيتها بواسطة التغذية الصناعية وإنشاء السدود. إلا أن معظم هذه الدول، باستثناء سلطنة عُمان، لم تولِ حماية المياه الجوفية من الأنشطة البشرية الاهتمام الكافي والمطلوب، ولا توجد لديها الاستراتيجيات المتكاملة المطلوبة لحمايتها من التلوث الذي قد ينتج بواسطة الأنشطة السطحية، على رغم أن تلوث المياه الجوفية بفعل الأنشطة السطحية ذو تأثير بالغ على صحة الإنسان نظرا إلى طبيعة الملوثات البشرية، وتمثل خطرا أكبر من تدهور الخزان بفعل التملح أو انخفاض منسوب المياه. أضف إلى ذلك أن كلفة إزالة التلوث من المياه الجوفية تعتبر عالية جدا (مقارنة بتحسين نوعية المياه بسبب التملح)، وفي غالبية الأحيان لا تكون ناجحة في التخلّص النهائي من الملوثات.

وللدلالة على خطورة تلوث المياه بفعل الأنشطة السطحية على صحة الإنسان، تشير إحصاءات الأمم المتحدة إلى أن المياه الملوثة بواسطة الأنشطة السطحية تؤثر على صحة 1.2 مليار شخص في العالم، وتتسبب في موت 15 مليون طفل تحت سن الخامسة سنويا (أي نحو 40 ألف طفل يوميا)، وفي قارة آسيا على سبيل المثال تبين هذه الإحصاءات أنه من بين كل ثلاثة أشخاص، لا يجد شخص واحد مياه شرب صالحة ونظيفة، ولا يجد شخص واحد من بين كل شخصين المرافق الصحية السليمة، وتتركز هذه الإحصاءات بشكل رئيسي في المناطق الريفية التي تعتمد على المياه الطبيعية بشكل رئيسي. إلا إنه، وكما هو معروف، فإن هذه الإحصاءات المخيفة لا توجد في دول مجلس التعاون بسبب وضع هذه الدول تزويد مياه الشرب الآمنة وتوفير مرافق الصرف الصحي على سلم أولوياتها وبذلها الجهود وتوفير الموازنات الضخمة لتحقيق ذلك، بالإضافة إلى أن غالبية سكان هذه الدول يعيشون في المناطق الحضرية.

إلا أن التوسع العمراني والزراعي والصناعي المتسارع في دول المجلس أدى إلى بروز الكثير من مصادر التلوث الناتجة عن مخلفات هذه الأنشطة البشرية التي من الممكن أن تتسرب إلى المياه الجوفية وتؤثر على صلاحيتها للاستخدام ويمكنها أن تعرض صحة مستخدميها للخطر. ومن أهم هذه المصادر مياه الصرف الصحي غير المعالجة أو المعالجة جزئيا في المناطق التي تفتقر إلى شبكات تجميع مياه الصرف الصحي البلدية، وما يمكن أن تحمله للمياه الجوفية من فضلات الإنسان (بكتيريا وفيروسات ومواد عضوية)، وغيرها من المواد الملوثة المستخدمة في المنازل؛ ومياه الري الزراعي وما يمكن أن تحمله معها من أسمدة عضوية وكيمياوية ومبيدات حشرية والمواد الكيمياوية المستخدمة لإزالة الحشائش والنباتات غير المرغوب بها، وخصوصا أن استخدام الأسمدة في دول المجلس يعتبر من أعلى المعدلات في العالم بسبب فقر التربة في هذه الدول (تصل معدلات استخدام الأسمدة في بعض دول المجلس إلى نحو 450 كيلوغراما للهكتار الواحد مقارنة بنحو 100 كيلوغرام للهكتار الواحد في دول العالم المتقدمة)، بالإضافة إلى مخلفات مزارع الدواجن والتي تحتوي على الكثير من المسمدات الضارة بصحة الإنسان.

وتمثل الأنشطة الصناعية والعمليات المتعلقة بحقول النفط مصادر تلوث إضافية في دول المجلس، وخصوصا تلك المتعلقة بعمليات التخلص من المياه المصاحبة لاستخراج النفط بواسطة برك التبخير أو عن طريق حقنها في الطبقات العميقة والتي تحتوي على مياه مالحة جدا ونسب متفاوتة من النفط وتؤدي في النهاية إلى تلوث المياه الجوفية الواقعة أعلاها سواء بالمياه المالحة أو بالشوائب النفطية فيها. كما تمثل التسربات الناتجة من محطات البنزين بسبب تآكل جدرانها أو أنابيبها وخصوصا القديمة منها، والمخلفات الصناعية المختلفة وورش العمل و»الكراجات»، مصدرا خطرا إضافيا للمياه الجوفية.

ولقد بينت بعض الدّراسات في المنطقة حدوث تلوث للمياه الجوفية بواسطة بعض مصادر التلوث هذه، وخصوصا تلك المتعلقة بالأنشطة الزراعية ومياه الصرف الصحي في منطقة القصيم بالمملكة العربية السعودية والعين في دولة الإمارات العربية المتحدة، وكذلك انتشار تلوث المياه الجوفية بواسطة العمليات النفطية في معظم دول المجلس.

كما بينت الدراسات البيئية في بعض دول المجلس أنه في ظل غياب برامج متكاملة لحماية المياه الجوفية من التلوث الناتج عن الأنشطة البشرية في بعض دول المجلس، فإن مخاطر التلوث من هذه الأنشطة تعتبرعالية نسبيا.

فعلى سبيل المثال، أشارت دراسة ماجستير أعدّت في جامعة الخليج العربي عن قابلية التلوث للمياه الجوفية بواسطة الأنشطة البشرية السطحية في مملكة البحرين إلى وجود مخاطر عالية من تلوث المياه الجوفية للكثير من الأنشطة التي تقع على مناطق المياه الجوفية ذات القابلية العالية للتلوث. ووُجد أن أجزاء كبيرة من هذه المناطق تقع عليها مبان سكنية من دون شبكة تجميع لمياه الصرف الصحي، ومناطق زراعية ومزارع للدواجن، بالإضافة إلى وجود عدد من محطات البنزين لا توجد بها أجهزة إنذار مبكر للتسرب المحتمل منها. كما بينت الدراسة نفسها أن هناك مخاطر من هذه الأنشطة البشرية على حقول المياه البلدية المستخدمة لتزويد السكّان بمياه الشرب والمنزلية. وأوصت هذه الدراسة بضرورة الأخذ في الاعتبار حساسية الخزان الجوفي للتلوث الناتج من الأنشطة السطحية عند التخطيط لاستخدامات الأراضي وإصدار التصاريح للأنشطة التنموية المختلفة، ووضع الاشتراطات الخاصة للتعامل مع صرف المياه الناتجة عن هذه الأنشطة، واتخاذ الإجراءات التي تضمن عدم تلوث المياه الجوفية نتيجة للملوثات التي قد تنشأ وتتسرب من الأنشطة السطحية القائمة حاليا.

كما بينت دراسة أخرى في البحرين بأن عملية التخلّص من المياه المصاحبة للنفط المحتوية على نسب عالية نسبيا من النفط فيها، عن طريق حقنها في طبقات المياه الجوفية العميقة نسبيا منذ عقد الستينات من القرن الماضي (عندما كان ينظر إلى هذه الطبقات بأنها غير صالحة للاستخدام آنذاك بسبب نسب الملوحة العالية نسبيا فيها)، قد أدى إلى وجود أكثر من 60 ألف متر مكعب من النفط في هذه المياه الجوفية التي تستخدم حاليا في تغذية محطة تحلية أبوجرجور للتناضح العكسي (تقنية ذات حساسية عالية للشوائب النفطية في المياه الداخلة)، الأمر الذي قد يهدد استمرار إنتاج هذه المحطة التي تعتمد على تحلية مياه هذه الطبقات وتزود قطاعا سكنيا كبيرا من البحرين بالمياه المحلاة، في حال وصول الشوائب النفطية إليها.

ولذلك فإنه من الضروري النظر إلى هذا الجانب المهم من إدارة المياه الجوفية في دول المجلس؛ أي حماية المياه الجوفية من التلوث الناتج عن الأنشطة البشرية، لما يمكن أن يسببه ذلك من خسارة للموارد المائية الجوفية ولما يمثله من مخاطر على صحة الإنسان في حال استهلاكه لهذه المياه، واعتباره جزءا مكملا وأساسا في الإدارة السليمة والمتكاملة للمياه الجوفية، واتخاذ الإجراءات اللازمة والمطلوبة لمنع تعريض المياه الجوفية للخطر من التلوث الناتج عن الأنشطة البشرية.

ويتطلب ذلك أولا تقييم قابلية المياه الجوفية للتلوث، وتحديد الحماية الطبيعية التي تتمتع بها هذه الموارد، ومن ثم التحكّم في الملوثات التي قد تنشأ وتتسرب من الأنشطة السطحية القائمة حاليا أو المزمع إنشاؤها مستقبلا في المناطق ذات القابلية العالية للتلوث، وتنفيذ الإجراءات الوقائية اللازمة لتقليل هذه المخاطر.

إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"

العدد 1773 - السبت 14 يوليو 2007م الموافق 28 جمادى الآخرة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً