كثيرون هم الذين انتقدوا إيران على طريقة تعاطيها مع ملفي الاجتياح الأميركي لأفغانستان والعراق ومن ثم سلوكها تجاه السلطات المنبثقة عن عملية الاجتياح والاحتلال وقد كنت ولا أزال واحدا من هؤلاء، لكن المتتبع لهذا التعاطي ومن ثم السلوك يكتشف بعدا آخر لهذه القضية يجعله يتأمل بعض الشيء في ما يحصل من أبعاد إضافية في الصورة الخلفية لهذا المسرح المفتوح!
فتشافيز الآن في طهران للمرة الثالثة خلال أقل من سنتين يبحث مع قادتها إنشاء «جبهة عالمية مناهضة للهيمنة الأميركية» كما تؤكد القيادتان الإيرانية والفنزولية في وقت يظهر فيه بوضوح شديد توحل قوات «اليانكي» وانكسار أحاديتها في المشهد الدولي على خلفية غرقها في المستنقع العراقي، هذا في الوقت الذي بدأت فيه أوروبا بالتفكير جدّيا في مشروعات حلول تسوية لأكثر من ملف إقليمي ساخن بعيدا عن الخيارات الأميركية التصادمية دفاعا عن مصالحها القومية العليا سواء كمجموعة أوروبية أو كدول منفردة. وهو ما بدأ يتبلور في التعاطي المختلف مع الملف النووي الإيراني بصورة واضحة سواء عبر قناة سولانا أو عبر إعادة أحياء القناة الألمانية التقليدية أو القناة الإيطالية المستجدة وليس بعيدا عن هذا الاتجاه كثيرا تخطو الإدارة الفرنسية الجديدة سواء بشكل مباشر أو عن طريق المراجعة الجدية الدائرة حول طريقة التعاطي مع الملف اللبناني الذي تبدو فيه طهران رقما صعبا لا يمكن الالتفاف من حوله كلما حاول البعض من دون جدوى!
على الجانب الآخر من المشهد الدولي تبدو الإدارة الأميركية وكأنها خسرت المعركة نهائيا في أفغانستان بعد أن تباعدت الثقة تماما بينها وبين مَنْ أرادتهم ممثلين مخلصين لها في «كابل» وقد تركتهم يلملمون ما تبقى لديهم من إمكانات شحيحة تقدّمها لهم قوات حلف الأطلسي الغارقة في الرمال الأفغانية المتحركة، فيما بدأت تواجهها تحالفات داخلية وإقليمية ودولية جديدة ليست إيران بعيدة عنها أن لم تكن متهمة بأنها تقف وراء تلك التحالفات وإمكان أن تتحوّل إلى جبهة عالمية مناهضة لبقاء الأطلسي على تخوم آسيا الوسطى والقوقاز وهو ما أخذ يشحذ وينمي اصطفافات دولية داعمة للمقاومة الأفغانية تضم، بالإضافة إلى إيران وروسيا كلا من الهند والصين أيضا وهو ما سبق أن كشف عنه أحد قيادات الطالبان الميدانيين عندما قال إن تحالف التمرد بدأ يصله الدعم من «الجهات الكافرة» أيضا في إشارة إلى موسكو وبكين.
وهنا ثمة من يعتقد أن كلا من موسكو وبكين يعملان بصبر وهدوء بالغين وبعيدا عن الضوضاء والصخب «الشرق أوسطي» المتفجر لإقامة تجمع دولي بديل عما يسمى بالمجتمع الدولي الذي تصادره أميركا منذ مدة مركز ثقله الظاهر مؤتمر شانغهاي للتعاون والذي دعيت إليه طهران ونيودلهي وإسلام آباد والمانيا كمراقبين في العام الماضي على أن يتم تبنيهم كأعضاء دائمين في قمة هذا الصيف!
إنها أشبه بمهنة حياكة السجاد التي قد تبدو طويلة النفس ومرهقة للروح والبدن وتأخذ من الزمن مدى متراميا ولا تعرف ملامح النهاية لدى الناظرين إليها لا بل حتى للعاملين التنفيذيين فيها في غالبية الأحيان، لكنه ما أن ترتسم اللوحة النهائية على خيوط حائكيها حتى يتسابق المعجبون والمغرمون بفنها في نظم قصائد المديح بها! هكذا تبدو الصورة الخلفية للمشهد الإيراني من بعض زواياه وأحد أبعاده غير المنظورة!
إنها مسلكية تلخصها الأمثولة الإيرانية الشهيرة بالقول: «إن الفراخ يتم عدّها في الخريف» فيما سبق لي أن جازفت ووصفتها بـ «دبلوماسية حياكة السجاد!».
المتتبعون لحركة التجاذب الدائرة بين الأميركيين والإيرانيين في أكثر من ساحة وعلى أكثر من صعيد يعتقدون بأن أقصى ما تبقى من خيارات عملية وواقعية أمام الأميركيين في ظل السياسة الإيرانية «المخاتلة» تجاههم من الآن حتى نهاية الخريف المقبل وبما تبقى لهم من «حيل وقوة» في «شرق أوسطهم الكبير» المتداعي هي أن يتمكنوا من وضع المسئولين الإيرانيين الرسميين والتنفيذيين «تحت السيطرة!»، وذلك من خلال الحرب الاستخبارية المفتوحة ضدهم وإن هذا هو غاية ما يأمله العقلاء من رجال الفكر والسياسة الأميركيين. من جانبهم، فإن الإيرانيين يجدون أنفسهم إذا ما قرروا الجمع بين إتباع سياسة التهدئة الدبلوماسية والحزم المبدأي في إطار التعامل المرن مع كل ملف من ملفات الخلاف مع واشنطن على حدة، فإنهم سيجدون أنفسهم قادرين على خفض حدة الضغوط الأميركية عليهم إلى الحد الأدنى الذي يمكن تحمله على المستوى القومي. والعراق هو الساحة النموذجية والأمثل لمثل هذا التجاذب المترنح بين الضرب «تحت الزنار» كما يقول المثل وبين المباحثات المفتوحة «تحت النار!».
إيران إذن تحاور أميركا وهي لا تثق بأي من وعودها مطلقا كما أنها لا تستطيع بأي شكل من الأشكال بأن تقدم الخطوات ولا الضمانات الملموسة التي يطالب بها الأميركيون لا في العراق ولا في غير العراق!
هذه السياسة الإيرانية «المتحركة» على قاعدة ثابتة مفادها الحكمة الشهيرة القائلة: «إن ما لا يدرك كله لا يدرك جله» هي التي تجعل من السياسة الإيرانية العامة تجاه واشنطن لاسيما تجاه أفغانستان والعراق غير مفهومة للعامة بل وقد تكون غامضة ومبهمة ومشوشة إلى حد كبير بل وقد تكون «مستنكرة» في بعض المراحل! لكن العقل الفارسي القديم والذي اكتسب نعت الدهاء في «البازار» كما في السياسة يقول لك ردا على كل ما تقدم من صفات ونعوت «سيالة» تصفه بها بان المطلوب في أوقات الفتن والاضطرابات، العودة مرة أخرى إلى تلك الحكمة الفارسية الشهيرة التي تقول: «ليس العاقل مَنْ يميّز الخير من الشر بل العاقل مَنْ يعرف خير الشرين!»؛ أي عندما لا تستطيع كسر إرادة الخصم بالضربة القاضية ما عليك إلا أن تحني قامتك بعض الشيء حتى تمر العاصفة. ثم تعود رافعا قامتك مع اقتراب موعد حصاد الخريف!
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 1773 - السبت 14 يوليو 2007م الموافق 28 جمادى الآخرة 1428هـ