العدد 1772 - الجمعة 13 يوليو 2007م الموافق 27 جمادى الآخرة 1428هـ

المحارب ليس بالضرورة المستفيد

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

التراشق الإعلامي الذي حصل في الأسبوع الجاري في بيروت بمناسبة مرور سنة على العدوان الأميركي - الإسرائيلي على لبنان يؤكد على عمق الانقسامات السياسية/ الأهلية في هذا البلد الصغير. فالقراءات كانت متفاوتة إلى حد التعارض حين تراوحت بين رأي يؤكد على انتصار لبنان (المقاومة) التاريخي والاستراتيجي على «إسرائيل» وبين رأي يشير إلى هزيمة سياسية داخلية بسبب عدم توافق القوى المحلية على خطة عمل تعيد تركيب الدولة بما يتناسب مع حجم الكلفة والتضحيات.

اختلاف التحليلات يظهر مدى ضعف الاتجاهات في وضع تصورات نظرية تتطابق نسبيا مع المتغيرات الميدانية والإقليمية والدولية. فالرؤى كانت أقرب إلى المفاهيم الأيديولوجية التي تسقط على الواقع مجموعة نظريات مقررة سلفا من دون الأخذ في الاعتبار موازين القوى والقياس عليها ومقارنتها بتجارب سابقة أو بتوقعات افترضت أن القوة الجوية الإسرائيلية قادرة على تعديل الموازين من طريق الحسم العسكري السريع.

الكلام عن الهزيمة أو الانتصار في مجال الحروب مسألة نسبية لأن المعادلات السياسية تختلف نظريا عن المجموع العام للوقائع الميدانية. مثلا الاتحاد السوفياتي انتصر عسكريا في نهاية الحرب العالمية الثانية ضد ألمانيا، ولكنه فشل في استثمار فوزه سياسيا لأن هذا البلد دفع ثمن المواجهة الميدانية مع النازية، فهو خرج بعد دمار شامل للبنى التحتية واقتصاده ومدنه وقوته البشرية (15 مليون ضحية في أقل تقدير) في حين خرجت الولايات المتحدة منتصرة من دون أن تسقط على أرضها الام قنبلة واحدة. هذا الفارق الميداني أعطى فرصة سياسية للولايات المتحدة في احتواء أوروبا الغربية وإعادة إعمارها تحت سقف «مشروع مارشال». بينما اضطر الاتحاد السوفياتي لإعادة بناء دولته ومعسكراته من الصفر ومن دون مساعدة من أطراف خارجية. وانعكس هذا الأمر لاحقا في سباق التسلح ونمو الاقتصاد وتطوير تقنيات الصناعة وتحديثها.

الأمر نفسه حصل في حروب جنوب شرق آسيا (فيتنام، لاوس، وكمبوديا). الولايات المتحدة خرجت منهزمة من تلك الدائرة في مطلع السبعينات بسبب فشلها في تحقيق أهدافها. والفشل في تحقيق الأهداف يعني في المقاييس الدولية العينية هزيمة نسبية وليست مطلقة في اعتبار أن أميركا نجحت لاحقا في تجاوز المأزق وأعادت هيكلة اقتصادها بشكل أحدث قفزة نوعية في تقنياتها العسكرية تفوقت بها على مجموع القوى المنافسة. في المقابل تعرض الطرف المنتصر ميدانيا (فيتنام، لاوس، وكمبوديا) إلى كارثة بيئية وتنموية وبشرية وعمرانية وسكانية لايزال يعاني منها حتى الآن. فهذه الدول الثلاث التي واجهت العدوان الأميركي وكسرت شوكة الولايات المتحدة في جنوب شرق آسيا كانت الأكثر تضررا من «الانتصار» والأقل استفادة من الفوز. بينما الدول المجاورة للدول الثلاث التي لم تحارب ولم تقاتل وأحيانا تعاونت مع واشنطن وسهلت أمورها كانت الأكثر استفادة من فوز جيرانها وانكسار أميركا إذ شهدت نموا غير مسبوق في اقتصادها وعمرانها.

فيتنام حاربت و»انتصرت» وتعتبر الآن أقل الدول الآسيوية تقدما في اقتصادها على رغم أنها أخذت تشهد نموا عاليا في السنوات الأخيرة. كذلك لاوس تعتبر قياسا بدول الجوار الأقل نموا من غيرها. وأيضا كمبوديا فهي لاتزال حتى الآن تكافح للخروج من دائرة التخلف الاقتصادي. في المقابل نجد دول الجوار حققت قفزات في نموها إلى درجة أطلق عليها في ثمانينات القرن الماضي «نمور» آسيا.

نماذج وأمثله

الأمثلة المذكورة سواء في أوروبا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية (1945) أو في آسيا بعد نهاية حرب فيتنام (1975) تعطي عينات ميدانية تكشف الكثير من الأوجه لإعادة قراءة وتحليل معاني الهزيمة والانتصار. الدول التي حاربت دفعت الثمن والدول التي راقبت استفادت من النتائج الميدانية للسياسة الدولية.

الصورة نفسها يمكن سحبها على العراق والقياس عليها لقراءة ماذا يجري في بلاد الرافدين ودول الجوار. فالعراق تحطم وانهار وتفكك وسقط منه مئات آلاف القتلى والجرحى وتدمر عمرانه وسحقت دولته وتوزعت علاقاته الأهلية على مراكز قوى ومناطق فيدرالية طائفية ومذهبية في حين أن دول الجوار المهددة بالاجتياح الأميركي استفادت اقتصاديا وسياسيا ونجحت في توظيف فشل الولايات المتحدة في بناء قدراتها وتنمية اقتصادها وعمرانها بسبب ارتفاع أسعار النفط الذي زاد من حجم المداخيل المالية.

ما حصل في لبنان قبل سنة ليس بعيدا عن تلك الأمثلة الميدانية التي يمكن القياس عليها كعينات ملموسة والمقارنة في ضوء نتائجها لمعرفة ما يحصل الآن في بلاد الأرز. فهذا البلد الصغير الذي تعرض إلى عدوان مبرمج نفذته القوات الجوية الإسرائيلية (7 آلاف غارة) والقوات البرية (مئة ألف صاروخ ومليون قنبلة عنقودية) دفع الثمن الميداني المباشر لمواجهة المشروع الأميركي. فالعدوان أدى إلى تقويض بناه التحتية وتفكيك مناطقه السكانية وتعريض اقتصاده إلى هزة عنيفة كادت أن تطيح به لو لم تتدخل الدول العربية وتقدم له المساعدات العاجلة لوقف انهياره. في المقابل نجد أن دول الجوار القريبة والبعيدة جغرافيا استفادت من حرب لبنان وعمدت إلى توظيف نكبة البلد الصغير اقتصاديا وسياسيا في علاقاتها الإقليمية والدولية. فمن يحارب ليس بالضرورة هو المستفيد سياسيا واقتصاديا. فالاتحاد السوفياتي أنقذ أوروبا من النازية، ولكنه كان الدولة الأقل ربحا من النتائج الميدانية قياسا بالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وحتى ألمانيا. وفيتنام التي حاربت الولايات المتحدة وكسرت مشروعها على أرضها كانت الدولة الأكثر تضررا من «انتصارها» بينما استفادت كل الدول المجاورة من تلك النتائج السياسية والاقتصادية التي ترتبت عن فشل أميركا في إنجاز مشروعها.

العراق أيضا الذي دفع الكلفة الباهظة ميدانيا وتحول إلى ساحة صراع دولية وإقليمية وأرض مفتوحة للقاصي والداني ربما ينجح في إفشال مشروع تيار «المحافظين الجدد» في واشنطن إلا أن ذلك لا يعني أن بلاد الرافدين ستكون هي الطرف المستفيد من هذا الإنجاز التاريخي والاستراتيجي. فالعراق في كل المعايير الميدانية خرج زمنيا وجغرافيا من المعادلة الإقليمية إلى فترة طويلة كما كان حال فيتنام بعد سبعينات القرن الماضي.

كل هذه الأمثلة العيانية تعطي ملامح سريعة عن نماذج معادلة الحرب والسلم والنتائج المتعارضة التي تنجم عنها. فالنتائج السياسية ليست بالضرورة ستكون متطابقة مع وقائع الميدان. وساحة الصراع قد تنتج معادلات تتراوح بين الهزيمة والانتصار، ولكن الساحة لن تكون بالضرورة هي المكان الذي يمكن أن يجرى عليه قياس الفوز أو الخسارة. وهذا التعارض هو بالضبط ما نلاحظه من خلال متابعة التراشق الإعلامي الذي حصل في الأسبوع الجاري في بيروت بين أطراف تشيد بالإنجاز التاريخي والانتصار الاستراتيجي على «إسرائيل» وبين أطراف تركز على الهزيمة السياسية وعدم نجاح لبنان في الخروج من مأزقه وإعادة بناء ما دمرته الحرب. الطرف الأول يقرأ الحرب في سياق دولي/ إقليمي ويرى أن دمار بلاد الأرز أنتج معادلة سياسية عطلت على واشنطن الاندفاع الميداني في مشروع «الشرق الأوسط الجديد» في حين يقرأ الطرف الثاني الحرب في سياق محلي ويرى أن خراب لبنان أنتج معادلة سلبية (أهلية وسياسية) عطلت على الدولة الاستمرار في مشروعها بدليل أن ارتدادات العدوان لاتزال سارية المفعول من الشمال (معارك نهر البارد) إلى الجنوب (الاعتداء على القوات الدولية).

المسألة إذا نسبية وهي في النهاية تتصل نظريا بمدى تطابق التصورات الأيديولوجية مع المتغيرات الميدانية الإقليمية والدولية.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1772 - الجمعة 13 يوليو 2007م الموافق 27 جمادى الآخرة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً