تشهد الدول المجاورة حالا من الارتباك الداخلي بشأن مستقبل العراق الذي تهدد الولايات المتحدة باحتلاله وتأثير ذلك على مجمل الوضع الجيوبولتيكي للمنطقة، وخصوصا أن تصريحات المسئولين الأميركيين تشير إلى أن الاحتلال سيمتد إلى أجل غير مسمى، تقوم خلاله سلطة الاحتلال ببناء قواعد جوية ونشر قوات برية كبيرة وبدلا من السماح بتقسيم العراق فإنها ستوجد حكومة محلية محمية بالقوات الأميركية. وفي اليوم الذي تكمل فيه قوات الاحتلال الأميركي سيطرتها ستجرى إعادة تحديد مجمل الجغرافيا السياسية للمنطقة.
وأقنع بعض أكبر مستشاري الرئيس الأميركي، الذي ينتمي أيديولوجيا إلى تحالف يميني ثلاثي يضم اليمين المسيحي المتطرف (يتعاطف معه جورج بوش)، والمحافظون الجدد واليمين الصهيوني المتطرف، أقنع البيت الأبيض أن احتلال العراق والإطاحة بالرئيس صدام حسين هو المرحلة الأولى في رؤية بعيدة المدى لتغيير المنطقة. ويحتل معظم رموز هذا التيار الأيديولوجي عضوية معهد «أميركان انتربرايز» الذي اختار بوش أن يكشف عن خطته لصوغ الجغرافيا السياسية للمنطقة العربية في حفل العشاء السنوي الذي أقامه المعهد الأربعاء الماضي.
ويجادل هؤلاء الصقور بأن إرساء ديمقراطية في العراق ـ وإن تكن صورة غير مكتملة منها ـ من شأنه أن يرسل موجات من الصدمة في أنحاء المنطقة كافة، وهم يعتقدون أن سورية ومصر والسعودية ستوضع في مأزق وستكون مضطرة لكي تصبح ديمقراطية. وقال مسئول أميركي كبير «لا توجد ديمقراطية واحدة بين الدول الـ 22 الأعضاء في الجامعة العربية... فلماذا تكون الحال كذلك؟».
ويرى محللون أميركيون أن كل دولة مجاورة للعراق لن تجد التشكيلات الأضعف من الجيش العراقي على طول حدودها بل ستجد قوات احتلال أميركية ـ بريطانية، وسيكون باستطاعة الولايات المتحدة أن تهاجم أي بلد مجاور للعراق تتخذ منه موقفا معاديا بقوات متمركزة في العراق، وتستطيع واشنطن أن تهدد بتدخلات علنية أيضا ولن تحتاج إلى إذن من «المضيفين الإقليميين» من أجل استخدام التسهيلات ومنشآتهم طالما أن تركيا والكويت ستسمحان بعبور قوات أميركية. ويرى هؤلاء أن سيطرة أميركية عسكرية على العراق ستغير ميزان القوى في مجمله في المنطقة من وضع يتعين فيه على الولايات المتحدة أن تجري مفاوضات من أجل شن حرب إلى وضع تكون فيه حرة في التصرف كما تريد.
فبالنسبة إلى سورية التي لم تزل علاقاتها الدبلوماسية مع العراق على مستوى أقل من سفير وان خضوع العراق لاحتلال عسكري سيكون أسوأ كابوس لها، إذ ستكون مطوقة برا بالكيان الصهيوني والولايات المتحدة وتركيا، ومن جانب الأسطول السادس في البحر المتوسط. وستجد سورية ـ التي لعبت تقليديا دورا متوازنا بين مختلف القوى ـ نفسها في كماشة غير قادرة على ضمان أمنها القومي، حين تعمد الولايات المتحدة إلى ممارسة ضغوط كبيرة عليها لدفعها إلى التوافق مع سياستها في المنطقة.
كما تشهد السعودية وضعا مماثلا آخذا بالتشكل فيها. فالولايات المتحدة تعمل بكثافة في اليمن وتحظى بتسهيلات لقواتها الجوية في قطر وتسهيلات للأسطول الخامس في مياه الخليج، كما أن قاذفات (بي1) وبعض العسكريين الأميركيين سيتمركزون في سلطنة عمان، وعلى البحر الأحمر، فإن السعوديين سيكونون محاصرين فعليا. والمشكلة نفسها توجد بالنسبة إلى إيران وإن على نطاق أقل من حيث التهديد. فإيران دولة أكبر وأكثر كثافة سكانيا وأكثر صعوبة من حيث إخافتها، ومع ذلك فإنه بوجود قوات أميركية في أفغانستان وفي العراق والخليج فإن الإيرانيين سيجدون أنفسهم أيضا مطوقين، وإن يكن أقل مما هي عليه الحال بالنسبة إلى سورية والسعودية. ويرى المحلل السياسي جورج فريدمان، في تقرير أعده حديثا، أن الرابح من الحرب الأميركية على العراق يرجح أن يكون تركيا التي قرر حزب ««العدالة والتنمية» الحاكم في أنقرة الانضمام إلى أميركا أسوة بما فعله حزب «الوطن الأم» العلماني في العام 1991 طمعا في مكاسب اقتصادية وعسكرية واستراتيجية. والأردن الذي سيعزز أمنه بقوات أميركية على حدوده الشرقية، والكويت التي تراهن على انتصار أميركي سريع طويل المدى في المنطقة. ويرى فريدمان الذي يترأس «مركز سترافور للأبحاث والتحليلات» المحافظ، أن ردود الفعل الإقليمية على الغزو الأميركي للعراق سيتراوح بين المعارضة العلنية، والمعارضة المطلقة للحرب على العراق. ومن المؤكد أنه ليس لدى سورية وإيران والسعودية ما تكسبه من حرب تشنها الولايات المتحدة على العراق، فكل من هذه الدول تدرك أن الضغط الأميركي للتعاون في الحرب ضد «القاعدة» سيكون حاسما ولا يمكن مقاومته في المستقبل وسيؤدي إلى عدم استقرار سياسي وهو ليس العالم الذي تريد هذه الدول العيش فيه.
وتتوقع واشنطن أن تستخدم عوائد النفط من أجل إعادة بناء العراق، ولن يكون هناك سبب لتحديد إنتاج النفط العراقي. وهذا لا يمكن أن يجعل أيا من الرياض أو طهران سعيدة، لأن ذلك سيؤدي إلى خفض الأسعار وزيادة المنافسة في نصيب الأسواق من النفط. ولدى سورية والسعودية وإيران من الأسباب ما يجعلها تعارض غزو الولايات المتحدة للعراق. فعواقب الغزو ستقوض مصالحها الوطنية. وكانت هذه الدول تعتمد على قدرة أوروبا على منع الحرب على العراق. ولكن الشكوك في هذه الإمكانية دفع السعوديين وغيرهم إلى محاولة إيجاد حل سياسي إما بتنحي الرئيس صدام حسين طوعا ومغادرته العراق أو حدوث انقلاب في بغداد يؤدي إلى تشكيل حكومة جديدة تتعاون بالكامل مع لجنة التفتيش وإزالة المبرر الأميركي للاحتلال. غير أن كل المؤشرات تدل على أن الولايات المتحدة ماضية في خططها لاحتلال العراق مدخلا لتغيير خريطة المنطقة إذ سيكون الكيان الصهيوني المستفيد الرئيسي.
ويرى فريدمان أن التعامل مع التحديات السياسية الداخلية الناشئة في السعودية ستتعزز بعد الحرب على العراق بالسؤال القائل كيف تنظر الولايات المتحدة إلى السعودية؟ وهو ما قد يعني حدوث تحول تدريجي في الموقف ينتهي إلى قبول بالأمر الواقع ودعمه.
أما الزعماء الإيرانيون الذين لن يشعروا بالهدوء في مثل هذه الأوضاع، فإن وجود قوة أميركية على حدود بلادهم سيوجد حاجة مستعجلة إلى تسوية النزاعات الداخلية. فالانقسام بين الذين يدعون إلى ضرورة الانفتاح على الولايات المتحدة وأولئك الذين يشعرون بأن حماية إيران ضد الولايات المتحدة هي المسألة الرئيسية، قد يتفاقم ويؤدي إلى زعزعة استقرارها. ولكن حتى الآن لا يوجد تهديد فوري ومكشوف لإيران على رغم قيام عمليات سرية تزداد بصورة دراماتيكية. أما مستقبل سورية التي وجه إليها بوش في خطابه أمام معهد «أميركان انتربرايز» الأربعاء تهديدا مبطنا من دون ذكرها صراحة بوقف دعم المنظمات الفدائية ضد «إسرائيل» سيكون أكثر ضبابية. ولدى واشنطن مخاوف بشأن التزام سورية طويل المدى بالمصالح الأميركية. وقد تجد سورية نفسها «محاصرة» بشكل يصعب احتماله. وستستفيد تركيا كثيرا من النفط العراقي وستتمكن من السيطرة على الأكراد كما فعلت في الماضي.
ولكن ما من شيء سيبقى على ما هو عليه بعد الحرب. وخلافا لحرب «عاصفة الصحراء» التي دارت بشأن إعادة الأمور إلى وضعها السابق فإن الحرب التي قرر بوش الابن شنها ستكون من أجل إقامة وقائع جديدة كليا.
وتدرك الولايات المتحدة جيدا أن وجودها المتزايد في المنطقة سيؤدي إلى تصاعد العداء ضدها وسيزيد من النشاط الفدائي ضد قواتها في المنطقة. ولكن التيار المهيمن في البيت الأبيض ووزارة الدفاع الأميركية يصر على أن هذا الثمن المتزايد مقبول طالما أن واشنطن قادرة على إعادة تشكيل سلوك الدول المجاورة للعراق، وأن القوة الجيوبوليتيكية ستعزز المصالح الأمنية الأميركية على رغم المخاطر المتنامية. فرموز التحالف المهيمن في واشنطن ترى أن العداء الإسلامي على مستوى معين أمر مفروغ منه وأن أية زيادة في هذا العداء لا يمكن أن تؤثر ماديا على المصالح الأميركية. ويرى هؤلاء أن أفكارهم التي لم تذهب قبل 11 سبتمبر/ أيلول 2001 إلى ما هو أبعد من أوراق سياسية نظرية فإن الوضع الحالي أعطاهم الفرصة التي احتاجوا إليها لاختبار أيديولوجياتهم عمليا في العراق مدعومين بالتجربة غير المؤلمة نسبيا في أفغانستان.
غير أن خبراء يرون أن غزو العراق لن يكون حدثا صغيرا في التاريخ، فهو سيمثل إدخال قوة احتلال إمبريالية جديدة بشكل مباشر في المنطقة وإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية الإقليمية استنادا إلى القوة العسكرية التي سيكون عليها مواجهة عواقب الاحتلال.
ويقول دبلوماسي عربي كبير في واشنطن تعتبر بلاده حليفا قويا للولايات المتحدة إن الوعود التي يقدمها بوش سينظر إليها في المنطقة على أنها خدعة «لأن لدى الرئيس بوش مشكلة صدقية، ليس فقط في الشرق الأوسط، بل في أوروبا». وعلى رغم أن هذا الدبلوماسي أعرب عن تمنياته بنجاح بوش في التخلص من الرئيس العراقي فإنه قال إن الرئيس بوش «ألزم نفسه في وضع جديد تجاه العراق، والوضع الجديد هو أمر مجهول. وإن أي شخص يقول إنه يعرف ما الذي سيحدث هو شخص كاذب»
العدد 177 - السبت 01 مارس 2003م الموافق 27 ذي الحجة 1423هـ