لا شك في ان رحيل تيتو وعبدالناصر ونهرو، زعماء حركة عدم الانحياز الكبار غيّر كثيرا من وجه الحركة السياسي، حتى انها أصبحت في مهب الريح بسبب سلبيتها في حل قضايا دولها المصيرية، واي قارئ لمبادئ الحركة سيلاحظ انها فعلا فقدت الهدف من انشائها تماما كبقية تكتلات العالم الثالث مثل: الجامعة العربية، والمؤتمر الاسلامي والاتحاد الافريقي واتحاد دول اميركا اللاتينية، وتجمع الآسيان. الزخم السياسي الذي اكتسبته منذ انشائها في العام 1955 تضاءل إلى الصفر وعلى رغم محاولة رؤساء 114 دولة في موتمر كولالمبور - ماليزيا (24- 25 فبراير/شباط 2003) استعادة دورهم القيادي القديم وإعطاء صبغة جديدة لفعالية الحركة، لا اعتقد ان الحركة تستطيع اصلاح ما افسده الدهر. في الماضي كان للحركة اركان قيادة لها وزنها وثقلها السياسي لما تملك من شخصية كرزماتية دينامكية تفرض نفسها على الساحة الدولية، هذه الشخصيات اختفت في ظل النظام العالمي الجديد.
عدم قدرة الحركة في مواجهة الدول الكبرى يقلص من حظوظ استمرارية الحركة في عملها باعتبارها كتلة فاعلة للبلدان النامية، كما ان الواقع الدولي الجديد لم يعد يتطلب عدم الانحياز بعد انهيار القطب الآخر المنافس لأميركا الا وهو الاتحاد السوفياتي إذا اصبحت دول العالم رهينة لقوة عظمى واحدة هي الولايات المتحدة الاميركية والادهى والامر من ذلك ان سقوط الاتحاد السوفياتي الذي كان يتعاطف مع قضايا العالم الثالث، زاد من مشكلات بقاء الحركة لأنها لن تجد العون من اميركا.
العجز في حل قضاياها المصيرية
منذ إنشاء الحركة على يد تيتو وعبدالناصر ونهرو واحمد سوكانرو في باندونغ في اندونيسيا العام 1955 حققت الحركة انجازات ملموسة على الساحة الدولية، ولعبت دورا بارزا في دعم حركات التحرير في العالم، وتصفية الاستعمار، وتمكين الشعوب من تقرير مصيرها وفرض سيادتها على ترابها الوطني والسيطرة على مقدراتها. لكن من المفارقات ان الحركة الآن مشلولة سياسيا، ولا تستطيع مواصلة ذلك الدور المهم ازاء جميع الشعوب المستضعفة. ربما تصويت دول عدم الانحياز لصالح القرار الاميركي بإلغاء قرار الجمعية العامة للامم المتحدة قرارها بمساواة الصهيونية بالعنصرية أبسط مثال على الهيمنة الاميركية وانقسام دول عدم الانحياز. كما ان الحركة وقفت ساكنة الحركة امام اهم قضايا دول عدم الانحياز المصيرية مثل: وقف التدخل الاميركي في شئون دول عدم الانحياز، وقف حرب فيتنام، وقف الجرائم الاسرائيلية في فلسطين او حتى تمكين الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره، حل قضية كشمير التي تهدد قوتين نوويتين من دول عدم الانحياز هي الهند وباكستان بحرب مدمرة، وقف حرب الخليج الاولى بين العراق وايران او حرب الخليج الثانية بعد غزو العراق للكويت ولم تتحرك لوقف التطهير العرقي في البوسنة والهرسك وكوسوفو ولم توقف القصف الاميركي على افغانستان، او حل مشكلات الحرب الاهلية المستمرة في افريقيا او انشاء حكومة معترف بها في الصومال او حل مشكلة جنوب السودان والحرب الاثيوبية الارتيرية ومشكلة الصحراء بين المغرب والجزائر.
في الاقتصاد مازالت دول عدم الانحياز ترزح تحت معدل الفقر وانخفاض الانتاجية وتأثر اقتصاداتها بمشكلات العولمة، واحتكار الدول الكبرى للسوق التجارية العالمية وما زالت دول كثيرة من الحركة تمنع من دخول منظمة التجارة العالمية ولم تتصد الحركة لمؤامرة الغرب التي دمرت اقتصادات نمور آسيا الناهضة ولم تستطع تحقيق هدف التعاون الاقتصادي بين الجنوب والجنوب، بل أصبحت جميعها ضحية سياسة المعونات التي تقدمها الدول المانحة نظير شراء مواقف سياسية.
عسكريا فإن اهتمام الحركة بمشكلة أسلحة الدمار الشامل يؤكد الشكوك الدولية ان اجندة الحركة توضع في واشنطن وليس في عواصم الدول الاعضاء خصوصا فيما يتعلق بواجبار دول عدم الانحياز بعد حوادث 11 سبتمبر/ايلول على الانضمام الى حرب اميركا ضد الارهاب ما جعل معظم مواطني دول عدم الانحياز المسلمين شبهة للضلوع في الارهاب ونتج عنه تراجع ملحوظ في الحريات الاساسية في هذه الدول كما ان اهم مشكلة تواجه معظم بلدان الحركة عدم قدرتها على تطبيق نظام التعددية السياسية او اقامة نظام ديمقراطي عادل.
الحركة طالبت بإزالة خطر اسلحة الدمار الشامل من منطقة الشرق الاوسط ولم تستطع منع الهند وباكستان وكوريا وايران من التقدم في مضمار الاسلحة النووية واسلحة الدمار الشامل، والاغرب من ذلك انها لم تستنكر حتى استحواذ «اسرائيل» لتلك الاسلحة وعدم انضمامها إلى المعاهدة واخضاع منشآتها النووية لنظام الرقابة والتفتيش الدولي، كما ان مطالبة الحركة بتفعيل نظام الضمانات التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية لم يلق إذنا صاغية وفوق هذا ان دولا من عدم الانحياز لم تطبق قرار الامم المتحدة رقم (1) للعام 1946م والذي يتناول الاسلحة التي تؤدي إلى الدمار الشامل كافة.
ايجابيات الحركة
ان هذا الاستعراض لسلبيات أداء حركة عدم الانحياز لا يعني بأي حال من الاحوال انه ليس للحركة ايجابيات لا احد ينكر ان الحركة حققت انجازات عظيمة أيام القادة الكبار والحرب الباردة، ولولا وجود حركة عدم الانحياز لكان التصادم بين الدولتين الاعظم حتميا إلا ان استشراف زعماء الحركة للخطر المحيط بكوبا هو الذي جعل فيدل كاسترو وهو من زعماء الحركة يقبل بسحب الصواريخ الروسية من مضيق الخنازير عندما كانت الحركة في اوجها، في نهاية الستينات استطاعت دول عدم الانحياز تحقيق قدر كبير من استقلالية سياستها الخارجية عن سياسة الدولتين العظيميين، وساهمت في خفض حدة التوتر في مواطن الأزمات والمشكلات في العالم. فنجحت سياسيا في كسب التأييد الدولي للقضية الفلسطينية، وساهمت في التحولات الايجابية التاريخية في جنوب افريقيا، اذ تم القضاء على سياسة الفصل العنصري البغيضة نهائيا، وظهرت لنا جنوب افريقيا جديدة بقيادة الرئيس المناضل نيلسون مانديلا الذي أصبح فيما بعد من زعماء الحركة ورموزها.
دول الحركة هي التي أثارت موضوع تغيير تركيبة مجلس الأمن غير الديمقراطية. وبذلت جهودا مضنية في سعيها لإعادة هيكلية مجلس الأمن. كما طالبت بمقعدين دائمين لدول عدم الانحياز في المجلس، وترشحت عدة دول من الحركة للمقعدين مثل: الهند والبرازيل والباكستان ومصر ونيجيريا، إلا ان محاولات تلك الدول باءت بالفشل بسبب رفض الدول الكبرى التغيير. ومازالت بلدان الحركة تناضل في مجلس الأمن لانهاء سيطرة الدول الكبرى على المجلس، وإصدار قرارات تطبق على دول الحركة بحجة الشرعية الدولية كما فعلت مع العراق وليبيا والسودان وأفغانستان.
اتساع حجم الحركة لا يعني فعاليتها
منذ انعقاد أول مؤتمر لزعماء حركة عدم الانحياز الذي حضرته خمس وعشرون دولة في بلغراد في سبتمبر/ أيلول العام 1961، اثر مبادرة من الرئيس اليوغسلافي تيتو، لوقف سباق التسلح المتسارع، والخوف من نشوب حرب بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، شهدت مؤتمرات الحركة اللاحقة زيادة في حجم المشاركة من جانب الدول النامية. فعلى سبيل المثال: حضر مؤتمر العام 1964 في القاهرة 47 دولة، المؤتمر أدان الاستعمار الغربي ونية الاحتفاظ بمواقع عسكرية أجنبية، وبذلك انتقل التركيز من بحث القضايا السياسية إلى الدفاع عن حلول لمشكلات اقتصادية وأخرى عالمية، والمؤتمر الأخير الذي عقد في كوالالمبو ـ ماليزيا حضره 114 عضوا. وبذلك ازداد عدد أعضاء الحركة ثلاثة أرباع عدد أعضاء الأمم المتحدد ما يجعلها أكبر كتلة سياسية في العالم. وعلى رغم تلك الحقيقة فإن مؤسسو حركة عدم الانحياز يعترفون، بأن الحركة ربما تدمر إذا أوجدوا بنى رسمية للحركة مثل: وضع دستور وسكرتارية أبدية. فالمنظمة متعددة الأطراف ومتخطية للحدود القومية والتي تتكون من دول ذات ايديولوجيات وأهداف مختلفة، لا يمكنها إيجاد بنية إدارية عقلانية لتنفيذ سياساتها بحيث يقبلها جميع الأعضاء.
لقد أوجدت حركة عدم الانحياز نمطا فريدا للأسلوب الإداري. فالإدارة ليست دينية ولكنها دورية وشاملة وتضم جميع الدول الأعضاء بغض النظر عن حجمها وأهميتها، وتوفر لهم فرصة للمشاركة في صنع القرار العالمي والسياسات العالمية. والقمة هي مناسبة عندما تؤول رئاسة الحركة رسميا إلى رئيس الدولة المضيفة للقمة، والذي يحتفظ برئاستها إلى حين انعقاد القمة اللاحقة. إذا تسابق قادة الحركة لاستضافة المؤتمر الغرض منه شرفي أو نوع من «البرستيج» ولا يزيد من تأثير الرئيس وفعاليته في معالجة القضايا الدولية.
القمة الثانية عشرة لحركة عدم الانحياز، التي انعقدت في كوالالمبور واختتمت أعمالها في 24 فبراير/ شباط 2003، انعقدت في أجواء سياسية غير عادية بسبب التهديد الأميركي لدولة عضوة في الحركة بالغزو، السؤال المطروح هو ماذا تستطيع دول عدم الانحياز فعله لوقف الغزو الأميركي للعراق والإطاحة بقيادتها؟ ألا تتعرض دول الحركة الأخرى للمصير نفسه عندما تختلف احداها مع القوة الأعظم. العالم مازال يشهد سلسلة من التطورات والتغيرات المهمة التي أعقبت انتهاء حقبة الحرب الباردة، عهد الاستقطاب الثنائي الذي طبع العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، هو الذي أدى إلى ظهور حركة عدم الانحياز، لتقوم بدورها البنّاء في الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين على امتداد فترة التنافس الحاد بين المعسكرين. وإذا كانت حركة عدم الانحياز قد ظهرت إلى الوجود، استجابة لرغبة شعوب العالم الثالث للحد من النتائج المترتبة على تفاقم الصراع بين الكتلتين المتنافستين، فإن إسدال الستار على الحرب الباردة وبروز معالم نظام دولي جديد يرتكز على معطيات جديدة، أفقد الحركة صدقية وجودها. من ناحية أخرى فإن تأثر دول الحركة بالقوى العظمى مازال يرسم سياسة تلك الدول، فعندما كانت بلدان عدم الانحياز اشتراكية، طالبت البلدان الاشتراكية بتطبيق مبدأ الحياد الإيجابي ـ أي مسايرة الاتحاد السوفياتي ـ آنذاك. لاشك في ان الحركة الآن تخلت عن الكثير من مبادئها بسبب المتغيرات الدولية المستجدة في السياسة الدولية، وانضمام معظم دول الحركة لتبعية الدولة الأعظم، على رغم ان دول الحركة أحوج إلى تكريس مبادئ الحركة والتأكيد عليها. لقد دأبت حركة عدم الانحياز منذ انطلاقتها على إبراز قيم العدل والمساواة بين الدول بأسلوب رومانسي خيالي لا يمكن تحقيقه، ودعت دائما إلى نبذ استخدام القوة في حل المنازعات، وسعت إلى صون كرامة الإنسان، والعمل على توفير الأمن والرخاء للإنسانية قاطبة. وإذا كانت هذه المبادئ تمثل دعائم مستمرة للشرعية الدولية، فإن حركة دول عدم الانحياز لم يكن لها أي تأثير على قرارات القوى الكبرى سوى إصدار قرارات في الجمعيةالعامة للأمم المتحدة لا تلتزم بها أميركا ولا «إسرائيل».
وإذا كانت دول عدم الانحياز جادة فعلا في تحقيق اختراق لصالح قضايا دولها، فلماذا لا تناصر العراق؟ ولماذا لم تتمكن من شجب العدوان الأميركي على دول الحركة؟ ولماذا تستقبل دولها جيوش الغزو الأميركية؟ إذا كانت جادة فعلا فإنها مدعوة اليوم أكثر من أي وقت مضى للتمسك بها والسعي لتحقيقها، وخصوصا ان التغيرات والمستجدات التي برزت في عالمنا خلال العقد الماضي تصب جميعها في هذا الاتجاه، وتستند في مقوماتها ومبرراتها على المبادئ والمثل ذاتها التي تؤمن بها حركة عدم الانحياز. لقد مضى على إنشاء حركة عدم الانحياز ما يربو على 35 عاما تأرجح فيها دورها على الساحة الدولية بين المد والجزر، فقد هذا التجمع الدولي المهم فعاليته وتأثيره، ولم يبقِ غير مدى استيعابه للمستجدات وتكيفه مع متطلباتها وظروفها. وبالنظر لطبيعة حقائق الوضع الدولي الراهن، فإنه لابد من التركيز على جوانب التعاون المثمر بين الشمال والجنوب، وإعطاء المزيد من اهتمامات الحركة إلى التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وهناك حقيقة دائمة لا خلاف بشأنها، وهي انه لا استقرار ولا أمن من دون تنمية شاملة. ويتعين عليها وهي تتلمس آفاق حاضرها ومستقبلها ان تتخذ خطوات عملية وفعالة تكفل عدم قيام أي بلد عضو في الحركة بالاعتداء أو تهديد بلد عضو آخر وذلك انسجاما مع المبادئ والمقاصد التي بنيت عليها الحركة منذ تأسيسها. ذلك ان حدوث أي تقصير في هذا الجانب كفيل بإضعاف مسيرتها وإصابتها بالوهن والتأثير على صدقيتها وأهمية وجودها
العدد 177 - السبت 01 مارس 2003م الموافق 27 ذي الحجة 1423هـ
لاشء
لايغيرالله مابقوم حتء يغيرو مافي انفسهم
حبر على ورق
كل الاهداف تبخرت