آخر تفجير حدث في بيروت هو تقطيع أوصال المرحوم وليد عيدو القاضي والسياسي وعضو البرلمان اللبناني الذي لا ينعقد، والمتحدث الأكثر جرأة في طاقم 14 مارس/ آذار الذي يقوده سعد الحريري بالاشتراك مع وليد جنبلاط وسمير جعجع وآخرين من ذلك التيار الواسع.
لا يحتاج الأمر إلى كثير ذكاء ليعرف المراقب من هم المستفيدون في إسكات ذلك الصوت الحاضر في معظم مرثيات لبنان التلفزيونية، أو لمن ترى توجه الرسالة القاتلة؟
في الخيال الجامح قد يتصور أحد، أن هناك مجموعة من الناس تريد أن تضرب بقسوة الوضع اللبناني ببعضه، واختارت قتل وليد عيدو كصاعق للتفجير. هذا إذا استبعدنا ما يدل عليه متوسط الذكاء والمعنيين بالأمر، إن المستفيدين وكذلك المحرضين هم فئة يمكن الإشارة إليهم باليد المجردة لأنهم معرفون بالعين المجردة. ولكن إذا كان ثمة شك في الجهة الفاعلة فإن المنطق يقول ولماذا عيدو بالذات؟ إن المقصد السياسي هو رسالة قوية باتجاه جماعة 14 آذار، والمعنى واضح. أنتم تستقون بالخارج الدولي ونحن نصفي رجالكم واحدا بعد آخر. عيدو كان متوافرا بوضوح على كل المنابر والناس تتذكر صورته وهندامه، لذلك فإنه هدف معقول لإرسال رسالة واضحة، والآخرون عليهم إما الانصياع لسلسلة من المطالب من بينها التنازل عن الحكم في لبنان لتركه لآخرين (يريدون الشراكة بكل قوة وبكل سرعة) أو أن تقل نسبة (الأكثرية) العددية في (الضفة) المؤيدة لـ 14 آذار وأطروحاتها لتصبح أقلية، وهي أكثرية على كل حال تسمى من قبل المعارضة استهزاء بـ (الوهمية). الفعل في الحقيقة يعني التغلب على الآخر (بالاغتيال الديمقراطي) أي جعل الغالبية البرلمانية (أقلية) عن طريق التصفية لأفرادها واحدا بعد آخر، لذلك فإن من العقل القول إن بقية أفراد الغالبية عليهم أن يتبخروا من لبنان أو يواجهوا القتل، أو من أجل سلامتهم ينظموا إلى الطرف الآخر ويهجروا صفوف 14 آذار، فينجو بجلدهم.
ثم يقال لنا إن لبنان بعيد عن (الحرب) الأهلية، وما يعني إذا هذا الاغتيال المبرمج إلا نوعا من الحرب الأهلية. حقيقة أخرى جديرة بالتمعن - مهما علا الصراخ بالاتهام - ومن كان المحرض، فإن المنفذ هو من الداخل، الدليل فضيحة المذيعة التي شمتت بالموت علنا وتمنت المصير نفسه للآخرين، هو دليل على عمق الشق اللبناني الداخلي الذي قد يطول ترميمه.
بعض الأطراف اللبنانية وإن شجبت الاغتيال علنا بشكل مباشر أو غير مباشر، فإن سلوكها السياسي العلني وأطروحاتها الإعلامية العلنية تؤيد مثل هذا الأمر لدفع (الحكومة اللبنانية) القائمة إلى التنازل والتسليم في النهاية بكل المطلوب، وهو تقديم لبنان مرة أخرى تابعا منخفض الجناح لقوى إقليمية تُسير سياسته، وتلصق في أثناء كل ذلك كل التهم التي (تثير) الرأي العام اللبناني، والعربي بالقول: أنهم تابعون للولايات المتحدة، وأن الولايات المتحدة هي وراء كل هذا العبث الجنوني بالوطن اللبناني إلى آخر أطروحات الإثارة! وهي منظومة إيديولوجية تبرر بعدها كل تصرف بما فيه التصفية الجسدية.
مشكلة هذا الفريق تتكون من شقين، الأول هو إمكان أن يتحول الخطاب المعادي لأميركا إلى خطاب مناقض له بمجرد ما أن تصل القوى الإقليمية إلى وفاق مع تلك البلاد الكبيرة والمؤثرة، أميركا،والثاني أن الكأس التي يشرب منها مناصرو 14 آذار اليوم وهي الاغتيال الفج والكارثي، أن هذه الكأس لسبب أو لآخر قد يتحول إلى أيدي من يغض الطرف اليوم عن الاغتيال. بالتأكيد اغتيال عيدو ليس بسبب شخصي، وليس بسبب دَين مادي عليه من قبل البعض، إنه اغتيال سياسي لإسكات صوت من الأصوات القوية أولا وتهديد من يمكن أن يرضخ للتهديد من قوى 14 آذار وتفكيك لحمة التوافق العريض الذي نبع بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري ثانيا.
مسلسل العنف في لبنان لن يتوقف، قد يبدأ بجماعة 14 آذار ولكن من يستطيع أن يراهن نهائيا على توقف نهر الدم هناك في مكان واحد من دون تجاوزه؟ في وقت ما ليس ببعيد ستكون هناك أيضا تصفيات في المعسكر الآخر، إما بسبب التغطية على الجرائم الماضية، كما حدث في محاولة اغتيال وزير الدفاع اللبناني الحالي، أو بسبب نفاذ صبر بعض الأطراف التي تتعجل الانفجار الكبير لتمييع الأجندة بكاملها.
يحتاج لبنان فقط إلى صاعق واحد، ليأخذ اللبنانيون بتلابيب بعضهم إلى جحيم جديد، هو أقسى بكثير من جحيم حربهم الأهلية التي انفجرت في وسط السبعينات ولم تنته إلا قبل عشرية واحدة من فجر القرن الواحد والعشرين، وقتها يدمر لبنان على رأس أهله.
كيف السبيل إلى الخروج من كل ذلك، لبنان مثل فلسطين، ساذج من يعتقد أنه بقواه الخاصة والداخلية يستطيع أن يداوي جراحه، كما أن التدخل الخارجي، وخصوصا الغربي، هو مغامرة كبرى لا يستطيع عاقل في أي من عواصم القرار الغربي أن يدافع عنها. كما أن عودة التدخل السوري، حتى لو ظن البعض في دمشق جهلا أنه قد يكون الترياق لكل ما يحدث في لبنان، غير ممكن، فالتاريخ لا يعيد نفسه.
أين المخرج إذا؟ يستطيع أن يتوافق اللبنانيون في الآخرة بالطبع حيث يلتقي المغدور من 14 آذار بالمغدور من 8 آذار وبالمغدور من أي رقم من آذار ومن غيره سيظهر في القاموس اللبناني قريبا، أما في الدنيا فإن الأقرب إلى المعجزة هو توافق اللبنانيين، ليس لأنهم لا يرغبون في التوافق، بل لأن ( الكيان) اللبناني لم ينضج بعد في عقول بعضهم، فبعضهم يرى أن لبنان ممر لمصالح وجسر لتنفيذ أجندة إقليمية، يغطيها بالحديث أما عن (تحرير فلسطين) أو (محاربة الشيطان الأكبر، أميركا) من دون المرور بالوطنية اللبنانية وبحاجات الإنسان اللبناني، مفهوم الوطن لديهم لا يتعدى جسرا لأماكن أخرى من العالم، أو هو ليس أكثر من رقم حساب في أحد بنوك الافشور.
تجتمع جامعة الدول العربية وتنفض، ويجتمع مجلس الأمن ويتخذ قرارات على الورق تترجم إلى أشلاء في شوارع بيروت، واللاعبون اللبنانيون يضحكون من خاصرتهم على هذا السيرك الكبير، ويأمل بعضهم بانتخاب رئيس جمهورية جديد لعل وعسى، إلا أن الأمر يتجاوز ذلك. المشروع الوطني اللبناني ليس محل توافق في الحياة الدنيا بين اللبنانيين، ولعله يكون كذلك في الآخرة عندما يلتقي المغدورون من حرب أهلية سابقة بمغدورين من حرب (لا أعرف كيف أصفها) لاحقة. والحبل على الجرار.
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1747 - الإثنين 18 يونيو 2007م الموافق 02 جمادى الآخرة 1428هـ