بغض النظر عن أية مقاربة أخرى، فإن التجربة أثبتت وبما لا يدع مجالا للشك أن التعددية السياسية نظرية غير منتجة في الفكر الشيعي، وهذه النظرية فشلت في أكثر مواقعها، وخصوصا في البحرين لعوامل كثيرة، بعضها ما هو تاريخي يرتبط بأصل وجود التشيّع وبعضها الآخر يتعلّق بشكل الممارسة.
صحيح أن الفكر الشيعي تميّز منذ مئات السنين بجعل باب الاجتهاد الفقهي مفتوحا، بخلاف بعض المذاهب الأخرى، فإن التعبير السلوكي السياسي المترتب على هذا الاختلاف خلق حالا من عدم الاستقرار في البنية الجماهيرية والمؤسسية ليس في التراث العقائدي أو الأدبيات الفقهية، فالتعددية - وهي الفسيفساء الثقافية الإنسانية الطبيعية - لا تصلح مع الظروف الخاصة التي اقترنت بالتشيع.
أستميحكم عذرا؛ لأوضح أن مناسبة الحديث هي رفض ما حدث في المنامة قبل أيام من خروج مسيرتين منددتين بالاعتداء الإرهابي على حرم الإمامين العسكريين (ع) في وقت واحد ومسارين متعاكسين؛ لأن خروج هاتين المسيرتين على هذا النحو علامة فارقة وتحدٍ خطير يعكس بؤس الواقع الاجتماعي الذي نعيشه وما كان يجب أن يكون؛ لأننا أمام جملة من التحديات الكبيرة جدا التي تحيلنا إلى مفترق طرق مصيري، لا تحتمل مثل هذه الأخطاء مهما تكن المبررات.
وعودا على بدء فإن فتح باب الاجتهاد السياسي وتعدد القراءات فتح أيضا نافذة للصراع بين أتباع المرجعيات في العراق وإيران ولبنان، وهذا ينسحب على البحرين أيضا، وثبت خطره خصوصا عند المنعطفات الرئيسية التي أثر أو تأثر بها الفكر السياسي الشيعي منذ انطلاقته.
ولعلّ تجربة الممارسة السياسية الحقيقية التي حظي بها الشيعة كانت محصورة في تجربة الثورة الإسلامية التي فجّرها الإمام الخميني الراحل، وهذه الثورة نجحت ابتداء أن تجمع الشتات الشيعي الذي كان سائدا قبلها، والسبب أن جلّ المرجعيات الشيعية تقريبا أمسكت بتلابيب هذه الثورة- طوعا أو كرها - حتى لو لم يقتنع بعضهم بالأهداف والمنطلقات التي بررت قيام الثورة ذاتها، ولكن بؤرة التحوّل أن الثورة الإسلامية في إيران حملت معها قالبا معاصرا لنظرية شيعية ليست بجديدة، ولكنها أطرت في نسختها المعاصرة تحت مسمى «ولاية الفقيه» التي رسمت معالمها في كتاب «الحكومة الإسلامية» وهذا التأصيل الفكري جعل الشيعة والتشيع في صدارة المعادلة السياسية إقليميا ودوليا سلبا وإيجابا.
ولكن ولما كان العامل السياسي حاضرا عند المرجعيات من قبل ومن بعد هذه الثورة، فقد برزت الآراء والسلوكيات التي تترجم حالة التضاددية، وطفت إلى السطح بشكلها الواضح حصرا بعد احتدام الخلاف بين المرحوم المرجع السيد محمد الشيرازي( الذي اتخذ من كربلاء المقدسة منطلقا رئيسيا لنشر أفكاره)، وبين التجربة الإيرانية، وبات من الواضح تبلور نشوء ما سمّي اصطلاحا بالتيار الرسالي أو «الشيرازي»، وهذا التيار يعتقد أنه شعر بشيء من الغبن إثر تراكمات الأحداث في الجمهورية الإسلامية في حين يرى آخرون أنه كان صراعا على السلطة أكثر منه صراعا أيديولوجيا حقيقيا.
وعلى رغم شبه الإجماع الشيعي على الثورة الإسلامية فإن التشظيات التي رافقت انتقال هذه الثورة إلى دولة، والتي كانت أشبه بالولادة القيصرية، بعد أن سعت كل الأطراف أن يكون لها موطئ قدم فيها أو لمواجهتها، انتقلت هذه التشظيات إلى المحيط وخصوصا البحرين، والغريب في الأمر أن الكيانات المتصارعة ذاتها انشطرت وانقسمت على نفسها لاحقا.
كل هذه التراكمات انعكست بصورة مباشرة على الواقع الشيعي في البحرين، وبغض النظر عن ثنائية «الأصولية والإخبارية» التي عصفت بالفكر الشيعي عموما، فإن كل المشكلات المتعاقبة التي كانت تدور رحاها في المراكز العلمية في (النجف الأشرف وقم المقدسة تحديدا) وجدت من يتبناها ويحتضنها في البحرين ببركة بعض طلبة العلوم الدينية ممن درسوا في الحاضرتين العلميتين الرئيسيتين.
فصراعات بعض أتباع حزب الدعوة مع التيار الرسالي «الشيرازي» كرّست انقساما غير مسبوق ليس على الصعيد الأيديولوجي والفكري والسياسي بل حتى على المستوى الواقع الاجتماعي، وكل محطات الاختبار(ومنها الانتخابات النيابية في 2006) أثبت أن هذا الصراع ذو هوة عميقة، إلى درجة أن الشروخات أخذت مأخذها حتى في داخل العائلة الواحدة، والنتيجة أن الواقع السياسي الشيعي البحريني أصبح واقعا سقيما، وعلى رغم كل محاولات التقريب ورأب الصدع، فإن «الانشطارية» تقوى على منافسة أي جهدٍ من هناك أو هناك يحاول أن يقضي على هذا المرض أو أن يطوق تداعياته.
ووصل الأمر إلى من تبنى مقاطعة بعض المساجد والحسينيات في عقدي الثمانينات والتسعينات، وتطور الخصام إلى شبه قطيعة كاملة لا لسبب سوى أن هؤلاء ينتمون لفكر بعض المرجعيات الأخرى التي لا تؤمن بفكرة ولاية الفقيه بشكلها المطبّق في إيران، وهناك في الطرف الآخر أيضا من تنكر للدور الذي شغله الإمام الخميني مع الأمّة في كل تحدياتها الفكرية والثقافية والسياسية، وأخذ يتحالف مع كل شخصٍ - مهما يكن سطحيا - فقط ؛لأنه يضمر العداء لمرجع كالإمام الخامنئي مثلا.
وفي منتصف التسعينات شهدنا فصلا جديدا من فصول الانقسام بسبب بروز مدرستين لهما آليتان مختلفتان في التصدّي لقضايا الشأن العام رغم أن كليهما ينحدران من حزب الدعوة ومن المؤسسين القياديين فيه، فبرزت إبان انتفاضة التسعينات مدرسة المرحوم الشيخ سليمان المدني (ورثتها الرابطة حاليا) ، في قبال مدرسة «أصحاب المبادرة» التي خاضت صراعا حادا مع السلطة للمطالبة بإرجاع الحياة البرلمانية (ورثتها الوفاق حاليا)، واستفحل الاختلاف السياسي إلى خلاف منهجي واجتماعي لا يجوز أن يستمر أكثر.
يجب أن تتحلى كل الأصوات المؤثرة على الجماهير بالشجاعة الكافية لتأخذ زمام المبادرة، وتفتح الباب أمام حوار حقيقي للتخلّص من آثار هذه الأزمة التي تكاد تلغي كل مكامن القوة في الوجود الشيعي، والمجلس الإسلامي العلمائي وبلحاظ عنصر الثقة الكبيرة التي تتمتع بها قيادته - عند الغالبية على الأقل - يجب أن يساهم إيجابيا في إطلاق «انتفاضة مصالحة»جديدة ليجمع شمل هذا الشتات، حتى وإن تطلب الأمر قدرا من التضحية.
نحن بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى مكاشفة والى أكثر من مراجعة، وبحاجة إلى حلٍ أكثر عمقا من المجاملات الشكلية التي لا تترك أثرا ملموسا عند أتباع مكونات الفكر السياسي الشيعي في البحرين، ومن يعاصرون اليوم مؤكدا أنهم ليسوا مسئولين عن صراعات الكبار بالأمس.
إقرأ أيضا لـ "حيدر محمد"العدد 1745 - السبت 16 يونيو 2007م الموافق 30 جمادى الأولى 1428هـ