عندما دخل والي الكوفة زياد بن أبيه إلى بيت هاني بن عروة كان قد سبقه إليه سفير الإمام الحسين، مسلم بن عقيل الذي اضطر في هذه الأثناء إلى الاختباء ؛ لأنه كان مطلوبا من الوالي ولمّا كان هاني من المتعاطفين مع السفير والمتحمسين للتخلّص من حكم الوالي المذكور كما هي حال غالبية سكّان أهل العراق آنذاك الذين كتبوا إلى الحسين يستنجدون به للتحرّر من استبداد حاكمهم فقد رأى الفرصة سانحة ؛ليدخل على مخبأ مسلم ويطلب إليه الانقضاض على الوالي «بالضربة القاضية» وكفى الله المؤمنين شر القتال! فماذا كانوا جواب مسلم له؟ «الإسلام قيد الفتك»؛ أي أنه أبى أن يقوم باغتيال عدوه وخصمه الذي كان قد وضع جائزة كبرى لمن يأتي برأسه إلا بطريقة القتال الدفاعي في ساحة الحرب ووجها لوجه حتى لا يؤسس لبدعة الاغتيالات والغدر في الإسلام وباسم حفيد الرسول (ص).
ما دفعني إلى استحضار هذه الواقعة التاريخية اليوم في الحقيقة هو ما يجري في هذه الأيام في بلادنا من سفك غير أخلاقي، وغير مبرر، وغير شرعي، إطلاقا للدماء من بغداد إلى غزة إلى لبنان على طريقة الفتك وليس على طريقة القتال، قتال الشجعان أو الاستشهاديين المفترض ضد الأجنبي المحتل، إنه العبث والعمدية والغرائزية وقلّة العقل والدراية وانعدام الوزن والخروج على جادة الصواب وانحراف البوصلة تماما ولا تنفع ولا تقنع هنا التبريرات المقدمة كافة من قبل كل الأطراف المتورطة من دون استثناء! فالذي يوجّه بندقيته نحو الداخل في هذه اللحظة التاريخية مشكوك في أمره أصلا فكيف إذا كان يستخدمها بطريقة «الفتك» والغدر وبالطريقة العشوائية التي تأخذ الأكثرية البريئة بجريرة الأقليّة المذنبة! ثم ماذا يعني أن تهاجم مساجد أهل السنة مثلا وتحرقها ردا على مهاجمة زمرة مشكوك في أمرها كما نقول لمرقد الإمامين العسكريين؟ أليس في هذا تبريرا وشرعنة للعمل الأول؟! وماذا يعني إحراق بيوت قيادات فتحاوية أو رمي كوادر أو مناصرين لهم من السطوح أو إعدام أناس أمام عوائلهم أو اجتياح بيوت ومقرات قيادات السلطة بحجة أنها مقرات للفساد والأشرطة الجنسية! وقد يكون كل ذلك صحيحا، ولكن ماذا نعمل بالتشريعات الدينية المشددة والمؤكّدة على حرمة ضرب المجرم والمحكوم بالإعدام بكف إضافي؟! وأخيرا ماذا يعني تدمير الحجر وحرق البشر والشجر وإثارة الرعب في جمهور كبير من الناس العاديين بحجة الاقتصاص من القتلة والمجرمين المختبئين بينهم؟! أو إشاعة «ثقافة» اغتيال المعارضين بأي ثمن كان حتى لو أدى ذلك إلى اغتيال وطن بأكمله؟! إنّ كرامة الأولياء والأئمة والصالحين وكذلك كرامة الفصائل المقاومة وأيضا كرامة الجيوش وسيادة البلدان وقدسية القضايا التي يتم الدفاع عنها ليس فقط لا تبرر العبث الجاري بأرواح الناس وبقيم العدالة باسم الناس والعدالة، بل إنها تضر بهما أشد الضرر وتجعل القضايا المقدسة بمرور الزمان خارج دائرة اهتمام الناس تماما بل تقضي على كل أفراحنا بالمقاومة والتحرير وهو ما حذر منه مبكرا ولايزال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله ذلك العاقل الحكيم الذي يبدو أنه بات وحيدا وغريبا حتى بين «أهله وعشيرته»!
أعرف أن هنالك مَنْ لديه الكثير مما يمكن قوله لتبرير أفعاله أو ردود فعله دفاعا عن المقدسات أو الأوطان أو الجيوش أو سيادة البلدان ناهيك عن الدفاع باسم حق البقاء! لكنه وكما سبق وأشرنا في مقالات سابقة إلى قول شهير للإمام عليه عليه السلام: «الحق أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها في التناصف». نعود هنا فنقول: ليس المهم جمالية شرحكم للموقف! وقدرتكم البلاغية في الدفاع عن المواقف الحزبية أو الفئوية ولا حتى المقدرة على إظهارها وكأنها «مطابقة» للحق أو حتى للشرع! المهم في مثل هذه الحالات؛ أي عندما يتعلّق الأمر في حياة العامّة من الناس هو مدى مطابقة التداعيات العملية لأي موقف مهما يكن صوابا بنظر صاحبه أو حتى بنظر جمع كثير من «العقلاء» على حياة الناس وعلى المسار العام للقضية المدافع عنها. ولماذا نذهب بعيدا! ألم يستطع حزب الله اللبناني أن يكنس الجنوب من العملاء برشقات قليلة من الرصاص وهو في أوج قدرته، وهم في أوج ضعفهم وهم يولّون الأدبار باتجاه أرض العدو في العام 2000؟! ألم يستطع حزب الله وهو الذي خرج منتصرا على «إسرائيل» في حرب تموز الماضية والذي أحاط به الالتفاف والاحتضان الجماهيري من كل جانب في الوطن العربي والإسلامي الكبير أن ينقض على الحكومة والحكم والدولة في لبنان بحجّة ضرورة استكمال الانتصار وكان سينال التأييد والإسناد والالتفاف الجماهيري من أقصى الدنيا إلى أقصاها؟! الآن الآن ألا يستطيع حزب الله بما يمتلك من قوة و»رباط الخيل» ومن الإدعاء بصوابية موقفه أن يكتسح الحكم في لبنان ويعتقل كل معارضيه ويرمي بهم في السجون ويعلن حالة الطوارئ والحرب على «إسرائيل» في غضون 48 ساعة أو أقل من ذلك بكثير؟! ولكن السؤال كما هو دائما بأي ثمن؟! إنّ الذين يحرقون الأوطان ليسوا دائما من جنس نيرون! بل أحيانا قد يكونون من جنس أشرف الناس كما يتخيلون وأخيارهم! وقد يكونون كذلك فعلا. لكن المهم بالاجتماع والسياسة في النتائج وليس في النوايا! المهم هو أنك كم تستطيع أن تكظم غيظك وكم تستطيع أن توفر من طلقاتك للقتال الأكبر والعدو الأخطر وكم تستطيع أن تتحمّل التعايش بل حتى العيش المشترك مع الآخر المختلف معه على أخطر القضايا أحيانا والذي قد نظن أحيانا أننا قادرون على القضاء عليه بـ «الضربة القاضية» كما نظن فإذا بالقضية تحوّل أوطاننا إلى عروش خاوية!
إنك لا تستطيع أن تخوّن الآخر ثم تطلب منه الاشتراك في حكومة وحدة وطنية!
تماما كما أنك لا تستطيع أن تكفّر الآخر ثم تدعوه إلى نبذ العنف الطائفي!
تماما كما أنك لا تستطيع أن تستقوي بالأجنبي البعيد ثم تطلب من شريكك في الوطن ألا يستجير بجاره!
تماما كما أنك لا تستطيع أن تؤسس دولة على المحاصصة العرقية والطائفية ثم تطلب من المواطنين أن يحترموا معايير المواطنة!
تماما كما أنك لا تستطيع أن تبني الدولة على تهميش أو حتى استئصال فئات معيّنة ثم تطلب من هذه الفئات أن تقدّم الولاء للنظام مثلها مثل غيرها!
لقد قلنا مبكرا: إن الاستعانة بالخارج على خصوم الداخل سيمزق النسيج الاجتماعي للبلدان ويدخلها في دوامة الفوضى والتقسيم والتشرذم ويحوّل الأوطان إلى ما يشبه الليل المظلم مقطعة الأوصال والتي تتحرك فيها كل أنواع الغرائزية المذهبية والطائفية والفئوية والشخصية وكل أنواع هوى النفس الذي لا يخطر على بال أحد منّا للوهلة الأولى ويتحوّل الوحش الذي اختلقناه بأنفسنا لنخيف به الآخر أو نستقوي به عليه إلى وحش كاسر غير قابل للسيطرة لن يرتوي إلا بالقضاء على صانعه أيضا! وهاهي الحوادث تثبت صحة ما ذهبنا إليه في العراق وما يحاول البعض تعميمه على لبنان وفلسطين ينذر هو الآخر بما لا تحمد عقباه! وما يخاف منه هنا هو أن تكون حوادث فلسطين ولبنان المتسارعة باتجاه «العرقنة» قاعدة انطلاق جديدة نحو إنهاء أس الصراع؛ أي تكريه الناس بفلسطين والفلسطينيين والمقاومة والمقاومين والقتال والمقاتلين حتى يختلط الحابل بالنابل وهو ما يريدون ويخططون له مذ تأكّدوا من عجزهم عن الانتصار علينا من الخارج وبقوة الرعب والسلاح وأصبح الاقتتال الداخلي ملاذهم الأخير.
فهلا مَنْ يستيقظ ويفتدي نفسه من أجل الوطن أو الأوطان قبل فوات الأوان!
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 1745 - السبت 16 يونيو 2007م الموافق 30 جمادى الأولى 1428هـ