ثمة جدل واسع يدور في الأروقة الخلفية للدبلوماسية العربية حول مستقبل العراق في حال قررت أميركا الانسحاب منه والدور الإيراني المرتقب لملء الفراغ الذي سينتج عن مثل هذا الانسحاب. والكلام في هذا السياق كثير، قسم منه يتسرب على شكل تحذيرات بعض النخبة الملتصقة بالحاكم العربي والتي تكتب بشكل يومي عن «أخطار تسليم أميركا العراق للإيرانيين!» وقسم آخر لا يظهر إلى العلن لكنك تسمعه بقوة كلما دخلت في نقاشات «مكاشفة» مع دبلوماسيين عرب مقيمين في طهران أو منتشرين في الوطن العربي الكبير والذي يمكن تلخيصه في مخاطر «تقاسم نفوذ « أميركي إيراني في العراق على حساب الأمن القومي العربي! أما العراقيين وهم أصحاب الشأن كما يفترض فهم منقسمون بين جماعة الحكم والحكومة والذين يأخذون على العرب بالإجمال بأنهم «خذلوهم» أو كحد أدنى تركوهم للريح! وجماعة الرفض لمبدأ العملية السياسية في ظل الاحتلال أو من ينخرطون في نشاطات المقاومة فهم يأخذون على العرب «بأنهم هم من سهل للاحتلال وباع العراق للأجنبي وجلس اليوم يتباكى عليه» بعد أن أصبح ساحة تجاذب بين الأميركيين والإيرانيين!
الإيرانيون من جهتهم يقولون إنه لم يكن أمامهم عشية قرار الغزو الغاشم إلا الوقوف موقف ما سموه وقتها بـ «الحياد الفعال» أو الإيجابي أي بما افترضوه أنه يخدم خلاص العراقيين من حكم الطاغية من دون التورط في خطيئة العدوان تماما كما هم مجبرون اليوم على «مراعاة ومدارات» جماعة الحكومة إلى حين إنجاز مهمة جلاء الاحتلال! وهذا هو الذي اكسبهم ولا يزال هذا الدور الأساسي في العراق الجديد!
ونحن من جهتنا كمراقبين كنا ولا نزال نقول للأخوة العرب إن الأدوار تؤخذ ولا تعطى من قبل أحد لسواد عيونه! وأنه في عالم السياسة لا معنى ولا مكان للفراغ وعندما تفشل قوة مهما عظمت في ملء فراغ ما، تملأه قوة أخرى مهما «صغرت» فكيف بدولة إقليمية باتت كبرى مثل إيران! السؤال المركزي الآن هو هل أن الأمن القومي الإيراني و»الاقتدار الإيراني» تاليا يشكل خطرا على الأمن القومي العربي؟! أم أنه امتداد طبيعي للأمن القومي العربي ورصيد إضافي للأمة العربية التي هي اليوم أحوج ما تكون إلى صديق وصديق قوي ويجلس إلى طاولة مفاوضات مع الأميركي بشكل متكافئ! بعض الدبلوماسية العربية تقترب من ملامسة الواقعية في هذا السياق! إلا أن البعض الآخر منها لايزال يعيش الأحلام الوردية التي ترسمها له بعض النخبة العربية المنبهرة بالسلوك الإمبراطوري الأميركي واقتراب ما يسميه «بالإمبراطورية الإيرانية» مرة و»بالنفوذ الإيراني» مرة آخرى من نهاياته الحتمية على يد الإمبراطور الأميركي باعتباره القوة العالمية الأعظم في العالم والتي لا تقبل الهزيمة أو الفشل!
إنني كمراقب إيراني أو عربي لا أعرف في الحقيقة رؤية أفضل من الرؤية الواقعية التي يفترض بها أن تضع القوة الإيرانية أو «الورقة الإيرانية» بمثابة الرصيد الاحتياطي كحد أدنى إن لم يكن الرصيد الفعال والجاهز للعب دور المحفز والداعم لكل قضايا العرب في لعبة الأمم التي تحاول الإجهاز على القوتين الإيرانية والعربية على حد سواء. فالحد الأدنى من الحكمة والدراية يقول: «الزموهم بما الزموا به أنفسهم» فالإيرانيون يصرحون صباح مساء بأن من أولويات أولوياتهم هي القضية الفلسطينية وأن الهموم العربية وقضايا التحرر العربي الأخرى من سورية إلى لبنان إلى السودان إلى قضايا التنمية العربية وفي طليعتها انتزاع الحقوق العربية في العلوم والتكنولوجيا وتربية الكادر البشري من الاحتكار العولمي المتأمرك! وهذا لا يعني بالضرورة خوض كل معارك الإيرانيين وكأنها معارك العرب بالتمام والكمال وبالتالي الوقوع «فيما لاتحمد عقباه» أو الانخراط في استقطابات لايقدر العرب على تحمل نتائجها! كما يتكهن أصحاب الرؤى المشككة في مدى حكمة وصوابية الموقف الإيراني إلا أن ما لايفهم أن يدعو البعض لاعتبار الموقف الإيراني العام تجاه القضايا العربية الأساسية أقرب ما يكون إلى الموقف الأميركي أو حتى الإسرائيلي إن لم يكن أخطر منه!
أعرف أن هناك «تفاوتا» في الرؤى بين العرب والإيرانيين بشأن قضايا كثيرة وهذا بحد ذاته ليس فقط غير ضار بل هو قد يكون مفيدا ومصدر غنى وثراء لكن هذا «التفاوت» نفسه إذا ما حولناه إلى تصادم في الرؤى وصراع على أحقية كل طرف فإننا سنفشل وتذهب ريحنا مهما كانت نوايانا حسنة! لآن السياسة مرة أخرى تقاس بالنتائج وليس بالنوايا! ويبقى السؤال لماذا لا يبدأ العرب حوارا جديا وشفافا عن مستقبل العراق وأخر جديا وشفافا أيضا مع الأميركيين بشأن العراق ويخرجوا من دائرة إبداء القلق بشأن هذا البلد العربي المستباح! يقال إن إنارة شمعة واحدة أفضل من ألف لعنة على الظلام! والعراق اليوم بات اقرب ما يكون إلى «دولة أشباح ومجتمع الجثث المهولة» لم يعد يتحمل من العرب الجلوس في مقاعد المتفرجين كما لن يتحمل أي سياسة من جيرانه على العموم تقايض على استقلاله أو تشرعن الاحتلال أو تساوم على أمنه أو استقراره لأجل الدفاع عن الأمن القومي لهذه الدولة الجارة أو تلك!
فيجتاحه من يجتاحه ويستبيحه من يستبيحه تحت أي ظرف كان ذلك لأن الأمن القومي لكل بلد من بلدان المنطقة بات إلى حد كبير رهن باستباب الأمن في العراق بالذات ليس لأهمية العراق فحسب بل لأن الأمن بات إقليميا ولايقاس بالوحدات القطرية المنفردة!
بالأمس القريب كان النقاش يدور في كل بيت عربي ومسلم بأنه «لاحول ولاقوة لنا وأننا لا يمكننا أن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم» وها هي الأيام تثبت بأن تلك الرؤية لم تكن صائبة فإن سكتنا نحن فإن العدو لن يسكت وهو قد ربط كل شيء ببعضه بإحكام والأمر يتكرر اليوم مع العراق بشدة أكثر والحبل على الجرار! المسألة ليست عاطفية ولا آيديولوجية ولا حتى حضارية وتاريخية وجغرافية أو دينية فحسب بل هي مصلحية وعملانية وآنية بامتياز أيضا! فلا أمن لأحد من حاكم أو محكوم في كل المنطقة من دون توفير الأمن للعراقيين واللبنانيين والفلسطينين وذلك لا يتحقق ولن يتحقق بشكل ناجز إلا بالجلاء، نعم جلاء الاحتلال أو هذا الكلام لم يعد كلام مقاومين أو متمردين أو مغامرين أوسمهم ما شئت بل صار كلاما يتبناه أكثر الناس سلمية وتعاونا مع «القوات المتعددة الجنسيات» وهو ماورد بالتفصيل في مداخلة مطولة قدمها نائب الرئيس العراقي عادل عبدالمهدي في مؤتمر عن أفق التنمية الإقليمية عقد قبل أسبوعين في طهران عندما قال بالحرف الواحد: «لا أمل ولا أفق في مشروع تنمية حقيقي لهذا الاقليم والمنطقة مدججة بالاحتلال من فلسطين إلى العراق».
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 1738 - السبت 09 يونيو 2007م الموافق 23 جمادى الأولى 1428هـ