بسيطة المظهر إلى درجةِ التناقض مع إفراط أناقة المثقفة اللبنانية، بهيّة الطلّة تلقائية غير متكلفة سريعة المعشر شفافة حالمة. هي باختصار امرأة قادمة من زمن الحلم وربما لم تزل تعيش حلمها. تلك هي المخرجة اللبنانية هيني سرور التي دقت أبوابنا حديثا، وكانت قد دقت ساعة تحرير ذاتها الإنسانية منذ صباها وقبل أن تدق ساعة تحرير فيلمها المهم الذي أرّخت فيه للثورة في ظفار ولدور المرأة في تلك الثورة. هيني سرور تنتمي لذلك النوع من النساء الذي يعي في عمر مبكر ذاته الإنسانية الحرة وحقه الأصيل في الانطلاق إلى أهداف ومصائر في الحياة هو يختارها بملء حلمه وملء إرادته. إنها نموذج لامرأة عربية تأبى إنسانيتها الحرة أن تستكين لقيود عائلية أو مجتمعية تتعارض مع ما تحمله من قناعات ورؤى فكرية وثقافية وتعيق طموحاتها وتحقيقها لذاتها.
بعد تجارب حياتية عدة فيها الكثير من الحلم والتمرد والإقدام والمغامرة والتغرب جاءت هيني سرور لتقول لنا: إن أراد المرء أن يحقق ذاته وطموحاته، فلا بد أن يمتلك أمرين أساسين هما الإيمان والخيال. إيمان الإنسان بأهدافه وتطلعاته وخططه في الحياة، فالإيمان - برأيها - يجعلنا قادرين على حمل الجبال. أما الخيال فهو التعويذة الأخرى التي ترى هيني أنه يصعب على المرء أن يبلغ نجاحه ويحقق ذاته دونها، إنسان بلا خيال هو أرض جرداء قاحلة. وهي في هذا المقام تحتفي بما ذهب إليه اينشتاين الذي رأى في الخيال قوة إنسانية تفوق حتى المعرفة ذاتها. وهيني سرور ترى أن الإيمان والخيال يولّدان الأمل، وبالأمل يحلّق المرء باقتدار في فضاءات الحياة، وبالأمل تكتسب المرأة أجنحة قوية تمكنها من الانطلاق الحر المُنجِز.
منذ صباها تمَلّك هيني سرور حلم تحقيق ذاتها وتأكيد وجودها، ومنذ عمر مبكر فرضت لنفسها كيانا معتبرا في محيطها الأسري. كان حلمها الأول أن تغدو راقصة باليه، وفي كنف بيئة مجتمعية محافظة انكسر حلمها ومنذ ذلك اليوم قررت ألا تُكسَر مرة أخرى. حلمت أيضا أن تصبح كاتبة، لكنها وخلال دراستها تعرفت على الفن السينمائي، وحيث ترك بعض أساتذتها ومن تعرفت عليهم من مخرجين سينمائيين بصمة كبيرة في حياتها فقد اختارت الفن السينمائي مهنة حياتها ومغامرتها الكبرى. على رغم ذلك لم تدرس السينما دراسة أكاديمية وتقنية فهي لا ترى أهمية للدراسة في هذا المجال ما دام المرء يتسلح بالقدر المطلوب من الخيال.
وعن توجه اهتمامها الإخراجي نحو موقع المرأة في التجارب الثورية، توضح هيني سرور أنه في أعقاب حرب يونيو/ حزيران 1967 تجرعت كغيرها من المثقفين العرب مرارة الهزيمة. صُدمت مما آلت إليه الأوضاع العربية، وغدت لا تصدق شيئا مما تطرحه الأنظمة العربية عن النهوض بشعوبها ومجتمعاتها. من جانب آخر كانت هيني تعد رسالة الدكتوراه عن موقع المرأة في المجتمع، وخلال جهودها البحثية لم تحصل من الأحزاب السياسية العربية - اليسارية والتقدمية خصوصا - على إجابة شافية عن موقفهم من المرأة. وعلى العكس فخلال بحثها وضعت يدها على مواقف غير تقدمية من المرأة في محيط الأحزاب المذكورة، واكتشفت افتقار تلك الأحزاب لبرامج واضحة ومحددة للنهوض بالمرأة. تقول: وجدت حالة تخلف وعقل محدود لدى الجميع.
في تلك الأجواء التقت هيني مع أحد قياديي الثورة العمانية ليحدثها عما تحقق في المناطق المحررة من تحرير جذري للمرأة الظفارية. ومتأثرة بما سمعت وراغبة في المعاينة الشخصية، قامت هيني بزيارة استطلاعية قصيرة لظفار لتقرر على إثرها أن تكون مغامرتها الإخراجية الأولى فيلما تحققه عن الثورة والمرأة في تلك البقعة المنسية من بلاد العرب.
كان انبهار هيني سرور بتجربة الثورة الظفارية كبيرا. شُدِهت بما اعتمدته الثورة في مجال تحرير المرأة الظفارية بالمناطق المحررة . وشُدِهت أكثر بشخصية القيادية هدى سالم (البحرينية المرحومة ليلى فخرو) القادمة من مجتمع الدعة والرفاه لتلتحق بالثوار وتؤسس للفقراء المعدمين مدارس الثورة بنظام تعليمي متقدم وبيئة تعليمية ديمقراطية ليس لها مثيل. واني لأحسب أن هيني سرور قد وجدت ذاتها وحلمها الإنساني وفكرها المتقدم يتجسد في هدى سالم، وربما للسبب ذاته التفتت لموقع المرأة في تجارب ثورية أخرى. فبعد إنجازها فيلم «ساعة التحرير دقت» عن ثورة ظفار الذي حاز جائزة النقاد بمهرجان (كان) السينمائي في فرنسا، حققت فيلما عن المرأة الفيتنامية ودورها في الثورة وفي حرب التحرير وآخر عن المرأة الفلسطينية ودورها في الثورة والنضال ضد المحتل الصهيوني.
وظلت هيني سرور ملتزمة الخط ذاته فكرا وموضوعا وإبداعا وسارت تجاربها الإخراجية اللاحقة المسار نفسه. ضاق حضن الوطن بأحلامها وبخط التزامها، فتشبثت بحلمها وارتمت في بقاع غربة تلبي التزامها وتحتضن إبداعها. وبابتعادها الاختياري نسي الوطن فراشته الحالمة لما يربو على الربع قرن. وحينما قرر مهرجان القاهرة تكريم المخرجات العربيات المتميزات العام 2003 لم يكن اسم هيني سرور مدرجا على قائمة أسماء المكرمات.
هيني سرور قدِمت أخيرا للبحرين تدور في رأسها مغامرة جديدة لا ينجزها سوى المسكون بحجم أحلامها. استمعتُ لحديثها في لقاءين أظهرا مقدار ما تتوافر عليه هذه المرأة من صدق وتلقائية وسمو مبدئي يشف روحا ووعيا متحررين من عُقد المثقفين والموسرين والمتحذلقين. لكني عَجبتُ من استمرار تمسكها المبدئي بفكر منتصف القرن الماضي بشأن التغيير الثوري - أو كذلك هُيّأ لي - على رغم ما جرى تحت جسور العالم من مياه. وعَجبتُ من عزمها على تحقيق مشروعات إبداعية تلامس أوضاع الأمة والمرأة العربية على رغم طول ابتعادها الجغرافي والثقافي عن المنطقة. هيني سرور لم تعبأ بما ذُكر أمامها بشأن ما آلت إليه أوضاع المرأة العربية التي شاركت بفاعلية في التجارب الثورية التي أنجزت عنها مشروعاتها الإبداعية السابقة في الإخراج السينمائي، ولم تجب عن سؤال بشأن قناعاتها الفكرية ورؤاها السياسية الحالية. هي حقا امرأة قادمة من زمن الحلم الثوري لمّا تزل تقبض بالنواجذ على حلمها، وربما أن الحلم هو من يقبض عليها.
إقرأ أيضا لـ "فوزية مطر"العدد 1737 - الجمعة 08 يونيو 2007م الموافق 22 جمادى الأولى 1428هـ