تبدأ اليوم (الاثنين) وعلى مستوى السفراء المباحثات الإيرانية الأميركية بشأن العراق وسط مجموعة من المتغيرات التي قد تتحكّم في طبيعة هذه المباحثات التي تعثّرت سابقا منذ نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 2005 ثم في فبراير/ شباط من العام 2006، وأخيرا خلال مؤتمر شرم الشيخ الأخير مطلع الشهر الجاري.
المتغير الأول هو تردي أوضاع الجيش الأميركي في العمليات الحربية والعسكرية داخل العراق وتزايد عدد الضحايا في صفوف الجيش الأميركي والشركات الأمنية، وانتقال جزء كبير من المعارك المباشرة إلى أطراف مدينة بغداد بعد هدوء حذر في صحراء الرمادي وبعض محافظات الوسط.
والمتغير الثاني هو انتهاء المهلّة القانونية المقررة للقرار 1747 والتي صادفت الرابع والعشرين من الشهر الجاري، أما المتغيّر الثالث فيتعلق بالتصريحات التي أدلى بها مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي خلال مقابله له مع صحيفة «نيويورك تايمز» والتي أكّد خلالها أن على المجتمع الدولي أن يواجه حقيقة حصول إيران على تكنولوجيا تخصيب اليورانيوم بنظرة واقعية، وأنه يجب ألا نرغم إيران على وقف برامجها في مجال التخصيب.
فيما يتعلّق بالمتغيّر الأول يمكن القول إن الرئيس بوش قد انتصر على غرمائه الديمقراطيين بالفيتو الرئاسي لتقويض قرارهم بربط تخصيص مبلغ 124 مليار دولار لتسيير الحرب في كل من العراق وأفغانستان، إلاّ أن هذا الانتصار مرتبط بمفاعيل ميدانية تتحكّم في نجاح أو فشل المشروع العسكري الأميركي في العراق وفي المنطقة برمتها، بمعنى أن الأميركيين باتوا ينظرون إلى مشروعات الممانعة في المنطقة بشكل أكثر جدية وواقعية، وهو ما دفع الرئيس بوش لأن يتحدث عن مصير الأنظمة المعتدلة في المنطقة في مواجهة التحديات الاستراتيجية، لذلك فإن واشنطن ومن أجل تضمين قرار النفقات الجديد بمزيد من النجاح على الأرض بدأت خطة سياسية موازية في العراق تقضي بفتح قنوات اتصال مع الزعماء المحليين في سائر المدن لتقليل الضغوط العسكرية على الجيش الأميركي بدل الاعتماد على حكومة المالكي، والتلميح بالسماح لقطاع كبير من البعثيين السابقين لتقلّد مراكز مهمّة في الدولة بحسب إشارات وزير الدفاع روبرت غيتس، وقد بدأت فعلا مباحثات جديّة بين رئيس الحكومة العراقية الأولى إياد علاوي وعدد من قيادات البعث في إحدى الدول المجاورة للعراق.
الأميركيون يريدون تحقيق نجاح ملموس مهمّا كلّف الأمر قبل العام 2008 لتحقيق نجاحات انتخابية مصيرية، ولتقليل الضغوط عليهم خصوصا لدى الشارع الأميركي، وقد ذكر وزير الدفاع ذلك صراحة عندما قال « ما أعنيه هو أننا ننتظر بفارغ الصبر كالآخرين، إن لم يكن أكثر أن تسير الأمور في منحى إيجابي، وإنكم تعرفون أنني أبذل ما في وسعي للتوقف عن كتابة رسائل التعزية، إنه أمر رهيب والناس يعانون منه».
في المتغيّر الثاني فإن الأمور باتت أكثر تعقيدا فيما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني، فواشنطن لا تريد إفشال مباحثاتها مع الإيرانيين بشأن العراق لتقليل فشلها هناك، وفي الوقت نفسه لا تستطيع أن تغض الطرف عن تقدم البرنامج النووي لطهران، في ظل إصرار إيراني على مواصلة التحدي والمضي قُدما في هذا المشروع وهو ما أعلن عنه أحمدي نجاد في أصفهان قبل أيام عندما قال إن بلاده ستطور برنامجها النووي إلى أقصى حد ممكن، وأن بلاده لن تتراجع قيد أنملة في عزمها على تطوير برنامجها النووي، ومهما يكن التحليل بشأن هذه التصريحات، فإنها تعكس عدم وجود رغبة إيرانية لتقديم تنازلات للولايات المتحدة الأميركية فيما يتعلق ببرنامجها، وهي لهجة تشي بأنهم سيعون لرفع سقف المطالبات خلال مفاوضاتهم مع الأميركيين في بغداد. الروس بدورهم أبدوا موقفا براغماتيا مماثلا للموقف الذي اتخذوه قبيل إصدار مجلس الأمن للقرار 1747، فقد قال رئيس لجنة مجلس الدوما الروسي للشئون الدولية قسطنطين كوساتشوف إنه لا يستبعد فرض عقوبات على إيران في حال توافر أدلة تثبت تنفيذها برنامجا نوويا سريا، في حين قال مدير الوكالة الفيدرالية الروسية للطاقة الذرية سيرغي كيرينكو قال إن تشديد العقوبات على إيران لن يؤثر في تعاون البلدين في مجال الطاقة النووية، باعتباره غير مرتبط بمطلب مجلس الأمن تقديم ضمانات بالتزام معاهدة الحد من الانتشار النووي، وفي وقت أعلنت الناطقة باسم شركة أتوم ستروي اكسبورت المتعهدة ببناء مشروع بوشهر إيرينا يسيبوفا، أن المحادثات التي كان مقررا أن يجريها رئيس الشركة سيرغي شماتكو مع الجانب الإيراني ستتأجل، مُلمحة إلى ذات المشكلات المالية التي أعلنتها الشركة سابقا، وهي مجموعة مواقف روسية تحتمل أكثر من تفسير، إلاّ أن الأكيد هو أن موسكو تريد أن تتبنى موقفا قريبا من الغرب في حال أصدر مجلس الأمن قرارا جديدا يقضي بفرض عقوبات أخرى على إيران، وذلك لكسب ود الغرب في ترميم الاقتصاد الروسي المتهالك وعدم حجب قروض البنك الدولي التي أدمنت عليها الموازنات الروسية المتعاقبة منذ مطلع التسعينات، مع توارد أنباء عن وصول معدلات التضخم إلى 11 - 12 في المئة مع نهاية العام الجاري على أساس المعدل الحالي لتزايد النفقات العامة وارتفاع الروبل أمام الدولار في السوق المحلية، مع وجود دين هائل على الشركات الحكومية كروس نفط وغاز بروم بلغ أكثر من ثلاثمئة مليار دولار، وهبوط معدل ارتفاع الإنتاج الصناعي من 8 في المئة في الشتاء الماضي إلى 4.6 في المئة خلال شهر أبريل/ نيسان الماضي. لكن الإشارة الأهم تبقى هنا إلى أن الإيرانيين هم أيضا غير مهتمين كثيرا بقدرة روسيا على التأثير في المعادلات الدولية أو في قرارات مجلس الأمن، وهو الأمر الذي بدا أن واشنطن تسير باتجاهه أيضا، فالأميركيون لم يعودوا ينظرون إلى الموقف الروسي بالأهمية ذاتها التي كانوا يولونها إبان العامين 2002 و2003 وبات التركيز أكثر على الدور الصيني المتعاظم في المنطقة وشرق القارة. في المتغيّر الثالث والمتعلق بتصريحات مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي، فإن هذا التصريح لم يعقبه أي تصويب من قِبل الوكالة أو من البرادعي نفسه، بل إنه وخلال اجتماع كل من المبعوث الفرنسي والبريطاني والأميركي بالبرادعي للاحتجاج على تأييده السماح لإيران بمواصلة جزء من برنامج تخصيب اليورانيوم؛ أكد دبلوماسيون واكبوا تلك المباحثات أن البرادعي متمسك جدا بمبادئه وبالتعبير عن آرائه، بشأن الحاجة إلى الواقعية في معالجة قدرة إيران على إنتاج الوقود النووي، وهي أنباء إذا ما تأكّدت أكثر فإنها تفيد بوجود تباين واضح ما بين الوكالة الدولية للطاقة الذرية والترويكا الأوروبية وواشنطن، كما أن هذا التصريح للبرادعي قد سبقه تقرير مطول ذكر فيه أن مفتشي الوكالة لم يعثروا في إيران على أي دليل يثبت أنها ارتكبت مخالفات، وأن أجهزة الطرد المركزي الإيرانية قامت بتخصيب 260 كيلوغراما ولم تتم مشاهدة أي حالة لإعادة المعالجة خلال تلك العمليات. وهنا تجب الإشارة إلى ماورائيات تصريح البرادعي وتقريره الأخير وتمايزه عن التقارير السابقة، وهي أن هذا التقرير المطوّل والتصريح الجديد مبني على أن الوكالة الدولية قد توصلت إلى نتيجة حتمية وهي انتقال إيران من مراحل التخصيب الطبيعي إلى مراحل الإنتاج الصناعي، لذلك فإن المراقب يمكن أن يلحظ أن البرادعي قد سحب موضوع معالجة البلوتونيوم من جدول أعمال الوكالة، وهما من الموضوعات (التخصيب الصناعي و معالجة البلوتونيوم) التي كان الغرب يُركّز عليها بشكل تفصيلي خلال مباحثاته مع طهران. هذه المتغيرات الثلاثة هي بالتأكيد التي ستتحكّم في طبيعة المباحثات الإيرانية الأميركية في بغداد، وإذا ما توسّعت هذه المباحثات نحو فضاءات المنطقة برمتها نظرا إلى ارتباط بعضها ببعض فإن الفشل سيكون حليفها بالتأكيد.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1725 - الأحد 27 مايو 2007م الموافق 10 جمادى الأولى 1428هـ