في ذكرى نكبة فلسطين، وقعت نكبة جديدة لفلسطين أشد مرارة...
ففي حين حلت الذكرى التاسعة والخمسون لضياع فلسطين وإعلان دولة «إسرائيل»، حلت نكبة جديدة، لكن هذه المرة بأيدي فلسطينية وتشجيع إسرائيلي أميركي، وربما بتحريض عربي.
النكبة الجديدة، أطلقت العنان للقتل الفلسطيني المتبادل، بين قوات مسلحة فلسطينية، بعضها محسوب على حركة «فتح» والرئيس أبومازن، وبعضها الآخر محسوب على حركة «حماس» ورئيس الوزراء إسماعيل هنية... والضحايا فلسطينيون اسما وروحا وحياة.
وبينما يتقاتل الفلسطينيون، ويعلنون الحرب السوداء بين الأشقاء، تستعد «إسرائيل» لخوض حرب واسعة النطاق، ليس كما يتصور البعض في غزة والضفة الغربية، ولكن على امتداد المنطقة العربية، وربما خرجوا بها عبر الحدود العربية إلى إيران على الطرف الآخر من الخليج العربي!
ومن المذهل أن نقول إن حرب الأشقاء الفلسطينيين، تمثل اليوم السيناريو الأصغر، تمهيدا للسيناريو الأكبر، أي للحرب الأوسع والأخطر، التي قد تطول سورية ولبنان امتدادا لإيران، فتلقي بشظاياها على مصر والأردن المجاورتين، وعلى منطقة الخليج ودولها النفطية غير المجاورة!
فإن كان ذلك مذهلا، فالأكثر إذهالا، يتمثل في التناقض الفج القائم الآن، إذ يتسابق العرب العاربة والمستعربة، طلبا لود «إسرائيل» ورغبة في رضاها، حتى تقبل المبادرة العربية، بعد تلوينها وتزوقيها وتحت الاسم الكودي الجديد، ترويج المبادرة وتسويقها، لعلها تحوز الرضا والقبول.
في حين ترد «إسرائيل» بالتمنع وفرض الشروط الجديدة، وتطلب التطبيع أولا مع الدول العربية، قبل أن تتفاوض على نصوص المبادرة العربية، والاهم أنها تستبعد مسبقا أي تفاوض بشأن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، وكذلك بشأن استعادة القدس الشرقية.
وأظن أن من حق «إسرائيل»، حتى وهي في ظل اضعف حكوماتها بقيادة ايهود اولمرت، ان تمارس التمنع والتنطع والدلال، فهي على رغم ضعف الحكومة، مازالت الأقوى عسكريا والأشد جاهزية للقتل والقتال والغزو والعدوان، مسنودة بالحليف الاستراتيجي الأميركي، ومدعومة بالصديق الأوروبي.
بينما وصل الحال بالعرب حد استجداء الرضا الأميركي والقبول الإسرائيلي، وحد اللف والدوران بجثة المبادرة المطروحة منذ العام 2002، طرقا للأبواب المغلقة في وجوههم آملين في الاستجابة... أي استجابة.
العرب، وطبقا لقرارات قمة الرياض في الشهر الماضي، يطلبون التفاوض مع «إسرائيل»، بشأن مبادرتهم، بعد إعادة ترويجها وتسويقها، وهم يعلمون، أو على الأقل يعلم بعض عقلائهم وخبرائهم، أن التفاوض الجاد الذي يؤدي إلى نتائج محددة، يتم بين طرفين أو أطراف متعادلة، يحكمها توازن القوى، وما غير ذلك هو تفاوض بين منتصر ومنكسر، بين قوي وضعيف، لا ينتج عنه الا اتفاق اذعان.
ميزان القوى بين «إسرائيل» والعرب، مختل يميل لمصلحة «إسرائيل» بكل وضوح، ليس فقط في مجال امتلاك أحدث الأسلحة التقليدية، قبل وبعد ترسانة الأسلحة النووية «أكثر من مئتي قنبلة نووية جاهزة للانطلاق» ولكن أساسا في إرادة الحرب وجاهزية القتال وفق قرار سياسي عسكري، لا يتعلق بقوة أو ضعف الحكومة، لكنه يتعلق باستراتيجية المؤسسة العسكرية ذات الطبيعة المغامرة والروح العدوانية والطموح التوسعي!
ومنذ حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 المجيدة، التي تحدت «إسرائيل» وكسرت ذراعها، لم تقم للعرب قائمة، من حيث بناء القدرات السياسية واستقلالية القرار والاستعداد للحرب إن تم فرضها عبر العدوان، فتفككت الأوصال وتراجعت الروح وانكسرت الإرادة عبر الممارسات السياسية، الصاعدة الهابطة بين المناورة والمغامرة المتراجعة.
وباستثناء الصمود البطولي للمقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله، في يوليو/ تموز من العام الماضي، في مواجهة الحملة العدوانية الإسرائيلية على مدى 33 يوما، لم يشعر المواطن العربي بمصدر واحد من مصادر القوة القادرة على المواجهة، ولم يشعر الإسرائيلي بخطر حقيقي يهدد بقاءه وبقاء دولته (ثكنته المسلحة)... لذلك ترسخ على الناحتين الشعور بعدم التكافؤ، وميل الميزان لصالح طرف ضد الآخر!
وفي هذا المناخ الخانق، يسعى العرب للتفاوض مع «إسرائيل»، برعاية أميركية منحازة، بشأن المبادرة السلمية، بعد تليينها وتلوينها، فكيف يأملون خيرا، بعد أن تمكن الحليف الأميركي من الضغط عليهم للتساهل وابداء المرونة، ومن الضغط على «إسرائيل» للتشدد والابتزاز طلبا لمزيد من التساهل العربي!
ويخطئ من يظن أن الحرب الدامية القائمة في العراق، والحرب القادمة أو التي يجري الآن التهديد بشنها ضد إيران، أو الحرب النفسية المشتعلة ضد سورية، أو الحرب الأهلية في الصومال، أو الحرب المدبرة في دارفور، هي كلها حروب بعيدة عن بؤرة الصراع في فلسطين، بل تظل فلسطين بؤرة الانطلاق وبؤرة الانصهار، وكل ما حولها تمهيد واسع النطاق، لإشعالها أو لإطفائها وفق شروط محددة، وأبرزها شرط بقاء «إسرائيل» بحدودها التوسعية، الدولة الأقوى في المنطقة.
كل هذه المناوشات، السياسية والعسكرية، تدخل أولا في إطار فلسفة «الفوضى البناءة» التي تمارسها الإدارة الأميركية، وتدخل ثانيا في نطاق تمهيد المسرح لتصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي، وتدخل ثالثا في مجال الجهود الحثيثة للقضاء على كل «القوى المؤثرة والدول المحورية» في المنطقة، مثل مصر على ناحية وإيران من ناحية أخرى، ليصعد على المسرح بطل وحيد هو «إسرائيل»، فيصفق الجمهور في القاعة لشمشون الجبار!
لقد قبل العرب بالأمس شمشون الأميركي، وسلموه القياد واستقبلوه بالحفاوة العربية والكرم الحاتمي، وألقوا بين يديه القرار والاستقلال والسيادة والنفط والماء والهواء فوق الكرامة الوطنية، ولكنهم مازالوا مطالبين اليوم بقبول شمشون الإسرائيلي، ليس لأنه الأقوى فقط، ولكن لان أميركا تريد ذلك.
وهنا تبدو الفجوة بين النظم العربية الحاكمة، التي تقبل بهيمنة شمشون الأميركي والإسرائيلي، وبين الشعوب العربية الرافضة والممانعة، وفي حين تعتمد النظم الحاكمة على فرض الأمر بالقوة القاهرة والاستبداد المطلق والانفراد بالسلطة والثروة، فإن الشعوب تراهن على الصحوة الوطنية وعلى تحدي المقاومة، أي على الحلم، أو ما يشبه الحلم مهما ظل بعيدا أو مراوغا.
بين القوة القاهرة والحلم المراوغ، تعد «إسرائيل» سيناريوهات الحرب العسكرية الواسعة والنطاق، كما أكدت كل الانباء... وقد عمدت إلى تطبيق هذه السيناريوهات قبل أيام، من خلال واحدة من أضخم مناوراتها، تلك التي جرت على ثلاث جبهات في وقت واحد.
سيناريو الحرب على الجبهة السورية واللبنانية شمالا، والسيناريو الثاني على جبهة غزة ومصر جنوبا، ثم السيناريو الثالث على المنطقة الوسطى التي تضم الضفة الغربية والأردن، وهدفها النهائي هو تدريب قواتها واختبار قدراتها القيادية والعسكرية على خوض حروب ثلاثة على جبهات ثلاث في توقيت واحد، تحت الإشراف المباشر لقيادات الحكومة، وفي مقدمتها رئيس الوزراء اولمرت، وكذلك قيادة هيئة الأركان برئاسة الجنرال اشكنازى، لتحقيق الانسجام والتنسيق بين القرار السياسي ونظيره العسكري.
ونستشف من ذلك أن هاجس الحرب في «إسرائيل» وارد، وان الاستعداد لخوض الحرب، على جبهات واسعة النطاق ومتعددة، قائم، ليس فقط على المستوى العسكري والتعبئة المكثفة له، ولكن على المستوى السياسي والاستراتيجي، الذي تعرض لضربة موجعة خلال فشله في الحرب على لبنان الصيف الماضي.
وبالمقابل وفي التوقيت ذاته، كانت القوات الجوية الإسرائيلية تتدرب على ما وصفته المصادرة العسكرية، بسيناريو الاستراتيجيات المحتملة، لشن حرب جوية مفاجئة على إيران، اختراقا للأجواء العربية.
والمعنى الواضع من كل ذلك، أن القرار السياسي بالاستعداد للحرب الواسعة النطاق، التي تفجر المنطقة من غزة إلى طهران، قد دخل مرحلة الاستنفار والاستعداد، بالتدريب العملي من خلال كل هذه المناورات العسكرية المدعومة بأحدث تكنولوجيات التسليح الغربي.
فإن صح هذا المعنى، فان حديث العرب عن ترويج وتزويق مبادرة السلام، وبدء الحوار حولها مع «إسرائيل»، يصبح حديث اللهو والتضليل، الذي تحبذه الولايات المتحدة الأميركية في هذه المرحلة بالذات، حتى تجد مخرجا آمنا لها من المأزق العراقي الدامي الآن على الأقل... ودمتم!
خير الكلام: يقول على محمود طه:
أخي جاوز الظالمون المدى
فحق الجهاد وحق الفدا
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1720 - الثلثاء 22 مايو 2007م الموافق 05 جمادى الأولى 1428هـ