العدد 1719 - الإثنين 21 مايو 2007م الموافق 04 جمادى الأولى 1428هـ

«غَميضَة» يا كويت

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

منطلقا من أن حرية التفكير والقول وإتاحة النقد للأفكار والمؤسسات من دون خوف من القمع، هي أحد أركان الممارسة الديمقراطية، فإني لم أجد كلمة شعبية مناسبة تصف ما حدث في جلسة مجلس الأمة الكويتي يوم الثلثاء الماضي إلا كلمة «غميضة» وهي تعني (وا أسفاه) تعبيرا عن الحسرة التي يشعر بعضنا بها على تاريخ طويل من العمل السياسي الذي اعتقد جيلان على الأقل من أهل الكويت أنهما قاب قوسين أو أدنى من الدخول في نادي الديمقراطية الحقيقي المؤدي بالطبيعة إلى استقرار سياسي يؤدي بدوره إلى تنمية حقيقة قي البلد الذي يعترف العقلاء فيه بأنه يتأخر يوميا عن الركب، ليس العالمي ولكن أيضا الإقليمي، على رغم كل ما أوتي من موارد مادية وإنسانية، وتجربة نسبيا طويلة في التمثيل الشعبي.

ما القصة؟ واضح أن هناك محاولة جادة لتعطيل التنمية من طريق التصدي غير العقلاني لمشروعات تنموية ليس المراد منها غير «التنكيد». فقد قيل كلام جارح وغير عقلاني في جلسة الثلثاء الماضي؛ ما أوصل رئيس المجلس إلى القول إنه خائف على مسيرة الديمقراطية، ولديه كل الحق في ذلك القول.

ولم تكن تلك الجلسة وما تم فيها غير مسبوقة، فهناك سلسلة طويلة من التنكيد بين الأعضاء لا علاقة للتنمية بها من قريب أو بعيد، تدنى فيها الخطاب إلى درجة غير مسبوقة، وفشلت النخبة - إن كانت تتصف بهذا الوصف - في انتشال الخطاب السياسي من منحدر سريع سيؤدي إلى «سيرك» يأتي الناس إليه مستقبلا طلبا للفرجة!

قيل قبل فترة: إن سبب تدهور العمل السياسي هو الدوائر الصغيرة التي تأتي بنواب ليسوا على قامة العمل السياسي المسئول. وتبع الشباب تلك المقولة بشيء من الحماس مصدقين أن هناك جدية في إصلاح الدوائر وبالتالي إصلاح العمل السياسي في الكويت، حتى وصلنا إلى «الخمس» وفجأة نسي الجميع الدوائر الخمس (المصلحة) جملة وتفصيلا من دون ذكر لها، وبدأت المناكفة من جديد على قاعدة الخمس والعشرين السابقة سيئة الذكر.

طبعا ليس هناك الكثير من أعضاء المجلس الذين يقفوا في الطابور مثل خلق الله الآخرين في المستوصفات حتى يأتيهم الدور - إن أتى - لعلاج بعد طول عناء. ولا يقف كثيرون منهم في طابور آخر لاستخراج مستند من أيٍّ من الدوائر الحكومية، وليس هناك أحد منهم يضطر إلى إنهاء معاملة في دائرة حكومية كي يعرف ما يعانيه خلق الله من تعطيل يصل في كثير منه إلى حد الإهانة. كما أن بعضهم لا يعنيه تدهور التعليم في البلد وقد خَرَّجَت كثير من مؤسساته التعليمية أفرادا شبه أميين بشهادة المؤسسات العالمية، فالتعليم وإصلاحه هما في آخر ما يكون من الأوليات؛ لأن الكثير من الأبناء يهيأ لهم التعليم في خارج البلاد وفي مؤسسات تعليمية أفضل! ماذا بقي غير المهاترات والاتهامات والاتهامات المضادة؟

تضيق شوارع الكويت بازدحام مروري خانق، وتنتشر أنواع من الجريمة من الفظاعة تبدو للعقلاء غير مصدقة، وتتدهور البيئة حتى تنتشر أمراض غير معروفه سابقا في البلاد، وتنقلب الأجندة على رأسها كي تتحول جلسة من أهم جلسات المجلس إلى محاباة الأقرباء واتهامات متبادلة!

ليس جديدا أو غريبا على المؤسسات الرقابية والتنفيذية وقياداتها أن تُقْدِم - حقيقة لا قولا - على إشهار ما يُعرف على نطاق عالمي بـ «الذمة المالية». وزير الخارجية البريطانية السابق جاك سترو قرر في ذمته المالية منذ فترة أنه «تلقى ترقية من شركة الطيران البريطانية لتذكرة سفر كان قد أصدرها من درجة رجال الأعمال إلى الدرجة الأولى» وقامت ضجة في الصحف البريطانية على هذا الامتياز الذي صرح به الوزير، وربما يكون ذلك قد أدى بعد حين إلى إعفائه من منصبه الرفيع! المسئول الرفيع في البنك الدولي بول فولفيتز يكاد يفقد منصبه، وأظن انه فاقده، بسبب مكرمة مالية لموظفة تعمل لديه تربطه علاقة بها على المستوى الشخصي. تلك الأمثلة هي مثالية وبعيدة عن التطبيق في بيئتنا العربية كافة، ولكن المبدأ واحد على الدوام، وهو عدم خلط الشخصي بالعام، وخصوصا في أعمال يقوم بها التنفيذيون أو المشرعون.

سمو أمير البلاد الراحل الشيخ جابر الأحمد الصباح قال مرة في افتتاح البرلمان: «إن أكثر أشكال الفساد فسادا هو فساد المشرعين»! وهي طامة كبرى؛ لأنها لا تكشف فقط عن نفوس ضعيفة بل تؤدي أيضا إلى أن يكفر الناس بالمؤسسة نفسها. وما حدث من خلفيات في مجلس الثلثاء الماضي من اتهامات تحتاج إلى «لجنة قضائية مستقلة» لا لجنة من الزملاء للتحقيق في كل ما دار. ومازلنا نتوقع أن يمرر قانون ويتابع في التنفيذ بكل صرامة وهو قانون الذمة المالية للقيادات في الأجهزة التنفيذية والتشريعية على السواء، ويصاحبه جهاز (له أسنان) يتابع التطبيق ويعرض النتائج على الجمهور بشكل شفاف وعادل، لعل ذاك يكون دافعا لمشرعينا لمتابعة ما ينفع الناس لا متابعة ما ينفع بعضهم على المستوى الشخصي.

لم يكن غريبا تبادل الاتهامات فهي للمطلعين خارج الحلقات الصغيرة معروفة ويتحدث عنها الناس، ولم تضئ «المعركة» الكلامية التي احتدمت يوم الثلثاء الماضي، أي من الموضوعات التي تلوكها الألسنة عن استفادة البعض شخصيا لكونهم ممثلين للأمة في السدة التشريعية، مهملين مطالب الناس وحاجاتهم الحياتية.

الحياة السياسية الكويتية في خطر داهم إن لم يبدأ العقلاء تدارك الخطر ومعرفة تأثير الكلام الحاد والاتهامات المتبادلة على النسيج الاجتماعي الذي قد يكفر بالتجربة نفسها؛ ما يعرّض مصالح الشعب - الذي يدعي البعض أنه يتحدث باسمه - للمخاطر. وهي مخاطر أكبر بكثير مما يتصوره بعضهم حتى يفكر فيه.

لقد تعبنا، هذا ما يقابلك به البعض في الديوانيات واللقاءات المختلفة؛ لأن هذا الجمهور فعلا يسمع طحنا من دون أن يرى طحينا، ويسمع خضا من دون «زبدة» والكل بطل في الدفاع عن «المال العام» والمال العام أو قل المصلحة العامة مهدرة.

الجميع متفق - بما فيها التصريحات الحكومية - على الحرص على تفعيل «القطاع الخاص» وهو قول مكرر تتبعه الشكوى من ضعف هذا القطاع وأيضا الحديث عن جعل الكويت مركزا اقتصاديا مزدهرا! كيف يمكن أن يتم ذلك في ظل هذا التنافس السياسي السلبي الذي أوصل المبادرة الفردية والعمل في النشاط الاقتصادي إلى مرحلة العجز؛ لأن كل مشروع يقدم يهاجم بضراوة، وهو تعطيل اقتصادي يؤدي في النهاية إلى الاعتماد على الدولة ومن ثَمَّ ضمور النمو الديمقراطي نفسه كما يقلل من سرعة تحديث المجتمع.

القراءة المختزلة لمجلس الثلثاء الماضي أن المصالح العامة تعطلت وما دعا المجلس إلى مناقشته ضاع هباء وتركت المناقشة ذيلا طويلا من الألم في قلب الكثير من المراقبين؛ لأنهم قالوا في سرهم وعلانيتهم: «غميضة... يا كويت».

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 1719 - الإثنين 21 مايو 2007م الموافق 04 جمادى الأولى 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً