العدد 1718 - الأحد 20 مايو 2007م الموافق 03 جمادى الأولى 1428هـ

الأفيون في المكتبة البريطانية

Common Ground comments [at] alwasatnews.com

خدمة Common Ground الإخبارية

يسأل المرء كيف يمكن لكارل ماركس أن يفسر هذا الأمر. فقد أقام ماركس، الذي دفن في مقبرة هايغيت في لندن، في المدينة لسنوات عدة، وكان قد أعلن في أحد الأيام وفي إحدى صالات القراءة المهيبة في المكتبة البريطانية أن الدين هو أفيون الشعوب.

طموحات منظمي معرض النصوص المقدسة، الذي افتتح في نهاية شهر أبريل/ نيسان ويستمر حتى 23 سبتمبر/ ايلول 2007 هي بالتأكيد دراماتيكية بحجم اليافطات السوداء الضخمة التي تغطي مدخل المعرض. المعرض، وعنوانه الفرعي «اكتشف ما تتشارك به» كان، كما أكد لنا البيان الصحافي، حدثا فريدا من نوعه، إذ عُرضت أمثلة نادرة لنصوص دينية يهودية ومسيحية وإسلامية جنبا إلى جنب.

التركيز الديني تلخصه عبارة «أهل الكتاب» المستخدمة في النصوص الإسلامية اعترافا بالجاليات المسيحية واليهودية التي تسلمت نصوصا دينية صادرة عن الله تعالى قبل رسالة النبي محمد (ص)، واحتضانا لها.

جرى عرض النصوص الدينية بحسب موضوعها حتى يتسنى اكتشاف النواحي المشتركة والاختلافات بين الأديان، بهدف إثبات كيف تعايشت الأديان الثلاث وأثّرت على بعضها بعضا، وكيف قامت بتشكيل جزء كبير من الحضارة والثقافة الأوروبية.

طبعا، الأعمال المعروضة تتمتع بالعظمة والإلهام. فكتاب لشبونة المقدس، الذي انتهى العمل به العام 1482 يشهد على الحياة الثقافية الفنية التي عاشها اليهود قبل طردهم من اسبانيا المسلمة من قبل الغزاة إيزابيلا وفرديناند. إلى جانب هذه التوراة جرى عرض العهد الجديد الذي تم تخطيطه في القسطنطينية في منتصف القرن العاشر. ولإتمام الثلاثية الإبراهيمية تم عرض ما يمكن أن يكون أعظم مقتنيات المكتبة البريطانية وهو المصحف العظيم الذي قُدّم هدية إلى السلطان بيبرس في القاهرة نحو العام 1305.

من المثير جدا والمنير للفكر متابعة القصص والشخصيات والتعاليم الأخلاقية التي تتشارك فيها الديانات العظيمة الثلاث.

قصة النبي يوسف مثيرة بشكل خاص، مع إدراك بالفروقات في التفسير والتأكيد على التفاصيل والاعتراف بها.

السيرة الإسلامية مثلا، على رغم اتباعها بصدق وعمق في إيمان للحنكة والسرد المعروفين للقصة، أدخلت فيها عبارات متعددة تذكّر بوجود الله، إذ لا يُسمح حتى لجمال القصة - والقرآن يخبرنا بأن قصة يوسف هي أجمل القصص - أن يصرف انتباه القارئ عن الرسالة العميقة القوية للتسامي الإلهي الذي يتخلل جميع أقسام القرآن الكريم.

ليست أيا من الديانات الإبراهيمية، طبعا، وحدة متراصة كلية التناغم، بل تحتوي كل منها على أطياف من الرأي تتعلق بتفسير الحِكَم والشعائر. في هذا المعرض، كانت فرصة جميلة مشاهدة عينة من مخطوطات البحر الميت ذات الأهمية التاريخية والدينية الفريدة، إذ إنها تشكل الوثائق التوراتية الوحيدة الباقية المكتوبة قبل القرن الثاني. الجزء المعروض بالذات قسم من المزامير يرجع تاريخه إلى خمسين سنة بعيد الميلاد. ومن المعروضات الملفتة للنظر كذلك عينة من كتاب تعليقات القديس أفرام، وهو مخطوطة من القرن الرابع تحتوي على إشارات ساحرة عن صورة مبكرة مفقودة من الأناجيل.

يخرج المرء من المعرض وأصيب بالانبهار والروعة والخشوع من جمال ما شاهده.

النصوص المعروضة ملهمة بحق، تتراوح بين الكتب المقدسة والتعاويذ والتمائم إلى الكتب البالغة الصغر للصلاة والتعبُّد. التفصيل البالغ الوارد في الخطوط وإبراز الحرف إنما هو انعكاس للتعبد والتقوى الصادقين من ناحية وعظمة تبجيل الخالق التي لا تخضع لزمان أو وقت. يخرج المرء من المعرض متواضعا أمام تألق الخالق المقدس، يعتريه بعض الفضول عما يمكن لكارل ماركس أن يفكر به.

لا شك هناك بأن هدف المعرض طَموح ونبيل. فمن خلال عرض النصوص المقدسة للديانات الثلاث جنبا إلى جنب، عبّر المنظمون عن قصد عن ابتكاراتهم وتحدّيهم. السؤال هو هل نجح المنظّمون في هدفهم الأوّلي، ألا وهو بناء تفاهم متبادل بين الأديان؟

لا شك في أن الروايات الدينية المشتركة - وأكثرها إثارة قصة سيدنا يوسف والعذراء مريم - كانت هي الجسور المقدسة التي عبرتها الديانات الثلاث. وحقيقة أنها قامت بذلك بكل سهولة وهدوء إنما هي شهادة على كدّ منظمي معرض «القدسيات» واجتهادهم.

يتوقع المرء أن عرض روايات دينية مقدسة مشتركة كهذه يولد شعورا متزايدا بالفضول بين المشاهدين، وهذا ما يحصل فعلا إلى درجة ما. ولكن مع عبور المرء لمراحل المعرض تتراجع حدة فضول المشاهدين ويحل محلها شعور أعظم وأعمق بالراحة والهدوء النفسي، وإدراك بأن ما يهم فعلا هو ليس الاختلافات والفروقات بين الروايات وإنما القيم الروحانية المشتركة التي تتسامى فوقها.

* مؤسس ومدير Bookchase، وهي شركة تطبع الكتب عند الطلب مركزها المملكة المتحدة والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»

إقرأ أيضا لـ "Common Ground"

العدد 1718 - الأحد 20 مايو 2007م الموافق 03 جمادى الأولى 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً