استعرض المقال السابق موضوع المياه الجوفية في دول مجلس التعاون، ونسب الاعتماد العالية عليها لتلبية المتطلبات المائية المختلفة في هذه الدول والتي تتراوح حاليا من نحو 45 في المئة (دولة الكويت) إلى 95 في المئة (المملكة العربية السعودية وسلطنة عُمان)، وبمتوسط يبلغ 91 في المئة لإجمالي استخدامات المياه في دول المجلس، وبين بأن بعض دول المجلس تمتلك مياه متجددة تعتمد على الأمطار القليلة التي تهطل على المنطقة، إلا أن غالبية المياه الجوفية في هذه الدول هي مياه إحفورية غير متجددة وتعتبر إعادة تغذيتها حاليا شبه معدومة. كما بين المقال أن الاعتماد الكبير على المياه الجوفية في الفترات الماضية كان مقترنا بغياب للإدارة الحكيمة لها وباستخدامها بشكل عشوائي وغير مخطط، وبأن ذلك كله قد أدى إلى استنزافها وتدهور نوعية مياهها بشكل متسارع ومستمر في جميع دول المجلس بلا استثناء. وبأن الوضع المأساوي والحرج الذي وصلت إليه المياه الجوفية في دول المجلس حاليا من تدهور في الكمية والنوعية هو نتيجة طبيعية للمستوى الضعيف وغير الكفء في إدارة وتخطيط وتنظيم استخدامات هذه المياه في الفترة الماضية.وقد ساهم في الوصول إلى هذا الوضع عدم الفهم الواضح للمياه الجوفية وخصائصها وقوانينها الطبيعية واعتبارها مادة مشاعة لاتنضب ويمكنها أن تتحمل ما يلقى فيها من ملوثات.
ولذا، فإن المطلوب حاليا في دول المجلس لوقف هذا التدهور والضياع لهذه الموارد الطبيعية، والذي يمكن وصفه في بعض الأحيان بالعبث، هو وقفة فورية وجادة للنظر بعقلانية في أفضل الوسائل والطرق لاستثمار هذه الموارد في هذه الدول للحصول منها على أعلى عائد اقتصادي واجتماعي وبيئي وسياسي للمجتمعات الخليجية، والتحديد الواضح للخدمات الرئيسية المثلى من استغلال مخزون هذه المياه الجوفية وأولوياتها، سواء كانت للإمداد أو لظروف الطوارئ أو كمخزون إستراتيجي، والقيام بالتحليل العلمي للمشاكل التي تواجه هذه الموارد حاليا للوصول إلى أسبابها الرئيسة سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو تقنية، ومن ثم التخطيط لوضع الاستراتيجيات والبرامج الإدارية المطلوبة لوقف هذا التدهور الذي تعاني منه هذه الموارد والعمل على تعظيم استدامتها لأطول فترة زمنية ممكنة، وفي الوقت نفسه الاستثمار في البحث والتطوير في العلوم والتكنولوجيا في مصادر المياه غير التقليدية البديلة وتجهيز مجتمعات المنطقة لمرحلة ما بعد نضوب المصادر الجوفية غير المتجددة.
ويمكن تقسيم هذه إلى الاستراتجيات إلى استراتيجيات تقنية، واستراتيجيات مؤسسية/ تنظيمية، وتشمل الاعتبارات التشريعية والاقتصادية والتشاركية، واستراتيجيات إدارية، وتشمل تحديد أولويات الاستخدام والمحافظة والحماية.هناك العديد من الاستراتيجيات التقنية التي تتناسب مع دول المجلس والتي يمكنها أن تساهم في تخفيض معدل استنزاف هذه الموارد في دول المجلس، ويمكن أن تكون هذه إجراءات هندسية لزياد العرض، أو تدخلات إدارية في جانب إدارة الطلب. ففي المجال الأول يمثل حصاد مياه الأمطار، سواء على المستوى المحلي أو من خلال بناء السدود للاستفادة من هذه المياه للاستخدام المباشر أو من خلال زيادة كمية التغذية للمياه الجوفية بواسطة حجزها وراء السدود، من أهم الخيارات المتاحة لدول المجلس التي تستقبل كميات أمطار عالية نسبيا وتمتلك الطبيعة الجغرافية التي يمكن بناء السدود فيها، مثل مناطق الوديان الجبلية في سلطنة عُمان والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، والتي يمكنها أن تساهم في تعديل وضع المياه الجوفية، وخصوصا إذا تم إدارة المياه الجوفية والسطحية في هذه المواقع بشكل وثيق ومترابط، بحيث يتم استخدام المياه السطحية في مواسم الأمطار والمياه الجوفية في مواسم الجفاف.
إلا أنه، وكما هو معروف فإن معظم مساحات دول المجلس لا تتوفر فيها نسبة الأمطار أو الطبيعة الجغرافية المطلوبين لبناء السدود، ولذا يمكن تطبيق المبدأ نفسه لتحسين مخزون المياه الجوفية باستخدام المياه غير التقليدية الفائضة عن الحاجة مثل المياه المحلاة والمياه المعالجة عن طريق حقنها بواسطة الآبار في المياه الجوفية. وفي حين أنه يمكن التحكم في إنتاج المياه المحلاة ليكون متناسبا مع كمية الطلب على المياه في القطاع البلدي بحيث لا يتم إنتاج فائض عالي منها، وفي هذه الحالة تخزينه في خزانات صناعية سطحية أو تحت سطحية، يمثل الاستفادة من الكميات المنتجة المتزايدة من المياه المعالجة، بسبب الزيادة المستمرة في استهلاك القطاع البلدي، وطريقة التخلص منها تحدي كبير في الكثير من دول المجلس. وحاليا تمتلك معظم دول المجلس تقنيات معالجة متقدمة تصل إلى المعالجة الثلاثية، ويمكن استخدام المياه المنتجة، من حيث المبدأ، في الري الزراعي غير المقيد، إلا أن هناك الكثير من المعوقات الاجتماعية والتقنية والصحية التي تواجه توظيف هذه المياه (أنظر «إعادة استخدام المياه المعالجة في مملكة البحرين... المعوقات»، الوسط، العدد 1402، 9 يوليو، 2006)، ويأتي على قائمتها عدم رغبة الكثير من المزارعين في استخدام المياه المعالجة في الري للعديد من الأسباب (دينية واجتماعية ونفسية وتتعلق بوعي ونظرة المجتمع للمخاطر الصحية، وغيرها). ولذا، قد يمثل هذا التحدي فرصة جيدة لدول المجلس في استخدام الكميات المتزايدة من هذه المياه المعالجة في التغذية الصناعية للمياه الجوفية لرفع مخزونها ولخفض معدل هبوط مستوياتها المائية أو لإعادة استخدامها في الزراعة بشكل غير مباشر للتخلص من معوق عدم تقبل المزارعين.
أما بالنسبة للتدخلات الإدارية في جانب إدارة الطلب، فتتمثل أساسا في تقليل الهدر في القطاع الزراعي، المستهلك الأكبر والرئيس للمياه الجوفية في دول المجلس حيث تصل نسبة استهلاك هذا القطاع للمياه الجوفية في دول المجلس إلى 90 في المئة من إجمالي استخداماتها، والذي يمكن أن يمثل ذلك «توفيرا حقيقيا» من المياه الجوفية مقارنة بإجراءات زياد العرض الهندسية المذكورة أعلاه، وخصوصا أن طرق الزراعة وأساليب الري المستخدمة في معظم دول المجلس متدنية في كفاءة استخدام المياه وينتج عنها فقدان كميات كبيرة من المياه نتيجة البخر والتسرب تصل إلى أكثر من 50 في المئة من المياه المستخدمة. وعليه، فإن العمل والتركيز على هذه المنطقة، أي رفع كفاءة استخدام المياه في القطاع الزراعي، يمثل أهم مناطق الحل لمشكلة المياه الجوفية في دول المجلس (راجع «مستقبل الزراعة في دول مجلس التعاون»، الوسط، الأعداد 1675، 1682، 1689، 1696).
وبالإضافة لذلك، فإن أي توفير في مياه القطاع البلدي، الذي يعتمد في دول المجلس على مصدري المياه الجوفية والمياه المحلاة، سيؤدي كذلك إلى توفير حقيقي في المياه الجوفية ويساهم في تحسين وضعها وسيكون مكملا لتوفير المياه في القطاع الزراعي، وإن كان بدرجة أقل. ويمكن عمل ذلك من خلال ترشيد استخدامات المياه وتقليل الطلب عليها في هذا القطاع بشكل عام وتقليل التسربات الناتجة من الشبكة البلدية.
إلا أن تطبيق الاستراتيجيات التقنية وحدها (إجراءات زيادة العرض وإدارة الطلب) سيظل ناقصا إن لم يكن مقترنا بشكل متكامل مع الاستراتيجيات المؤسسية والتنظيمية، والتي تشمل الاعتبارات التشريعية والاقتصادية والتشاركية، لإنشاء بيئة ممكنة وقادرة على إدارة هذه الموارد الطبيعية بكفاءة في دول المجلس، وهو أمر ما زال مفقودا في معظم دول المجلس. وهذا ما سيتم التطرق له في المقال القادم
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1710 - السبت 12 مايو 2007م الموافق 24 ربيع الثاني 1428هـ