في البحث عن حقوق المرأة في الزواج وأنواعه التقليدية والمستجدة وتحديدا زواج المسيار، لجأت إلى البحث في مصادر المعرفة المتنوعة من مواقع الفتاوى المشهورة وجامعات وكليات الشريعة في مصر وسورية والمملكة العربية السعودية والمغرب العربي وآراء رجال الدين من الطائفتين الكريمتين. والواقع أن الباحث يغرق في سيل الآراء والتفاسير والتفضيلات، إلا أنه يخرج أيضا بحصيلة مهمة من النقاط للتأمل والتفكير. وقبل الدخول في موضوع المقال، أجد أن شيئا من التعريف بمفهوم المسيار وشروطه وأحكامه مهم لإيضاح الإطار العام وخصوصا أن المسيار ليس من الأنواع المنتشرة للزواج في البحرين.
في لفظ المسيار يرى البعض أصلا في التاريخ قديما وحديثا، إذ يستشهد بتاريخ الرحالة الأوائل من المسلمين من طلبة العلم أو المال، الذين كانوا يمكثون بالبلاد فترات تَطول أو تقصر، ويتزوجون النساء فيها ويصبحون آباء، ثم يتابعون الهجرة، تاركين الزوجة والأولاد بطلاق أو بغيره بموافقة الزوجة.
والبعض اليوم يرى أن المسيار تسمية عامية حديثة درج الناس في منطقة الخليج على استعمالها، بمعنى السير، المرور، وعدم المكوث والإقامة في المنزل أو المكان، ويقال: إن زواج المسيار شائع في المملكة العربية السعودية وخصوصا في منطقه نجد.
وفي تعريف زواج المسيار يقول كثير من العلماء إنه زواج صحيح وطبيعي، بعقد شرعي صحيح يتم بإيجاب وقبول من الزوجين، وبوجود وليّ الزوجة، وحضور شاهدَي عدل، ومهر معروف، ونية تأبيد الزواج أي أنه لا يكون مؤقتا كزواج المتعة، إلا أن الزوجة - التي في الغالب تكون الزوجة الثانية للزوج - تُسقط حقها في مبيت الزوج عندها ليلا، الذي يسمى حقها في القَسْم، أي المبيت عندها دوريا بما يعادل زمن المبيت عند امرأة أخرى، ولكنه يأتيها وقتا في النهار، وتبقى في بيت أهلها أو مسكن آخر. بمعنى أن الزوجة تتنازل عن حقوقها المُقَرَّرة لها شرعا في النفقة والمبيت أو السكن المنفرد لتبقى عند أهلها لتحقيق مكاسب معينة لهما.
هذا الفريق من العلماء يرى التنازل عن الحقوق جائز، ويستشهد بأن سودة بنت زمعة، زوجة الرسول (ص) وهبت يومها للسيدة عائشة، وأن الرسول (ص) أقر ذلك... ويذهب إلى أن كل شرط لا يُؤثر في المقصود الأصلي والجوهري لعقد الزواج هو شرط صحيح، ولا يُخل بعقد الزواج ولا يبطله، ويرى العِبرة بالمضامين وليس الأسماء، وفق القاعدة الفقهية «العِبرة في العقود المقاصد والمعاني وليس للألفاظ والمباني». وتفصيلا يرى البعض أن لزواج المسيار صورتين، الأولى يشترط الزوج فيها في العقد إسقاط النفقة أو المسكن، والصورة الأخرى لا يشترط الزوج إسقاط النفقة، ولكنه يشترط عدم الالتزام بالمبيت، وهو الأكثرومقارنة بأنواع الزواج الأخرى فالمسيار يختلف عن الزواج المعروف في أنه سري غير معلن، بخفية عن الزوجة الأولى أو الناس، ويختلف عن المتعة في أنه مؤبد لا مؤقتا بأجل معين، ويختلف عن الزواج العرفي في أنه موثّق في المحاكم الشرعية، ويختلف عن الزنا في تحقق أركان هذا العقد من تراضٍ وولي وشاهدين. إن موضوع كتمان الزواج هذا هو الذي يستكرهه فريق آخر من العلماء كرها شديدا ويعلنون أنه مباح مع الكراهية، على رغم اعترافهم بشرعيته واكتمال أركانه وشروطه ويوصون بشدة بتسجيله حفظا للحقوق.
وبين مُحَرِّم ومُبِيح ومتوقف ومشترط، يختلف موقف العلماء ومنهم من أعلن قبوله المسيار ثم تراجع واستكرهه، ومنهم من مازال يطالب بمنعه وإن كان مباحا، ومعاقبة كل من له علاقة به من باب «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح». وغالبية العلماء ورجال الدين - وإن اعترفوا بصحته - لا يشجعون عليه، إلا في بعض الحالات الخاصة مع تقدير الحالات بحسب كل حالة على حدة. وهناك فريق يرى أن المسيار مباح لاستيفائه أركان العقد الصحيح وشروطه، ولكنه مُحرّم قضاء لما يترتب عليه من سلبيات ومفاسد ومآسٍ، وكذلك للشروط المجحفة بالزوجة الثانية وأنه ليس من الدين أو المنطق إنشاء بيت على حساب خراب بيت آخر. ويقولون باختصار: إن زواج المسيار حق يراد به باطل، وإن سرية هذا العقد يخالف قول الرسول (ص): «أعلنوا النكاح»، وإن ما يدفع الزوجة إلى قبول مثل هذا النوع من الزواج هو الظروف الصعبة التي تعيشها في مجتمع لا يرحم، كأن تكون غريبة أو مقطوعة، أو أرملة أو مطلقة، أو كافلة أيتام، أو تخشى أن يفوتها قطار الزواج، أو لم يتيسر لها أسباب الزواج، وهن كثيرات.
فريق العلماء المناصر للمسيار يرى أن فيه حلولا لبعض المشكلات، بالذات عند النساء المسنات أو الغنيات أو الموظفات أو المطلقات أو الأرامل اللاتي يرغبن في علاقة مباحة؛ لتحقيق بعض مقاصد الزواج أو إشباع الغريزة الجنسية الفطرية التي لا تعيب. هؤلاء يرون المسيار مرغوبا فيه لتحقيق عفة المرأة وصونها من الوقوع في الحرام من غير ذلك، ويطالبون الرجل بأن يكثر التردد على هذه الزوجة، وإشعارها بأنه زوج بالمعنى الصحيح. أما السلبيات فأهمها الشروط المجحفة بالزوجة الثانية كاعتزال الزوج زوجته أو مفارقته إياها وقت ما يريد وتنازل الزوجة عن حقها في النفقة والمبيت وبقاء الزوجة عند أهلها، وكذلك سرية الزواج وعدم معرفة الناس به على نطاق واسع.
لن ندخل أكثر من هذا في آراء العلماء والفتاوى الفقهية فهذا تخصص أهل الشريعة، وأبواب التفسير والاجتهاد واسعة، لا يفتحها إلا أهلها ولكننا نتفق مع السلبيات ونطرح مقترحاتٍ لضمان حق المرأة التي اضطرتها ظروفها إلى مثل هذا الزواج. وفي البداية وإن كنت من غير المشجعات على هذا النوع من الزواج إلا أني لست ممن يصدر حكما قطعيا عليه بأنه مُحِطٌّ بكرامة المرأة ومذل لها أو أنه نوع من الزنا المغطى بغطاء شرعي، ولا أرى فيه فرضا لمصلحة الرجل فقط بالضرورة أو أنانية منه؛ لأن المرأة هنا بطواعية وبنوع من الاستقلالية الذاتية ترسم وضعا شرعيا يناسبها ويحقق لها غايات معينة، وهي إن تنازلت عن بعض من حقوقها التي لا ترى نفسها بحاجة إليها، بوعي وإدراك وإرادة كاملة منها تقديرا لظرف آخر، فهذا شأنها. ولو تمعَّنا في علاقات الزواج العادي من حولنا لاكتشفنا أن كثيرا منها يتفق ووصف المسيار ولكن بصورة مُقَنَّعة، فماذا نقول عن الرجال الذين يستولون على معاشات زوجاتهم ولا ينفقون عليهن فَلسا من دون حول منهن ولا قوة؟ وماذا عن الأزواج الذين تفننوا في السفر إلى أقاصي الشرق والغرب واعتادوا الغياب المتكرر عن البيت لطلب المتعة خارج إطار الزواج في حين تبقى الزوجة وحيدة مهملة؟ وماذا عن هذا الذي يتزوج أكثر من واحدة ويعطي كل واحدة جزءا من وقته الثمين؟ أليست هذه كلها صورا متباينة من المسيار وإن اختلفت التسميات؟ ومن يحقق العدالة لهؤلاء النساء؟ وماذا عن الزواج العرفي؟ وماذا عن الزواج بنية الطلاق الذي يضمر فيه الرجل الطلاق ثم ينفذ من دون سابق إنذار؟ وماذا عن الزواج الميسر للمسلمين في الخارج أو الزواج فريند؟ أليست كل هذه صورا للزواج منقوصة الحقوق بالنسبة إلى المرأة ولكن بشكل مفروض ومن دون اختيارها الحر. أنا لست أنظر إلى الفوضى هنا، ولكني أسرد حالاتٍ نشاهدها يوميا وهي ليست بأحسنَ حال كثيرا من المسيار.
حتى يصبح زواج المسيار أكثر قبولا اجتماعيا لمن يضطر إليه، فلابد من الإعلان والإظهار حتى لا تكون المرأة موقعا لحديث وشكوك وتهم الناس، ويجب إخبار الزوجة الأولى خصوصا - إن وجدت - كما في حالات التعدد، فلها كل الحق في المعرفة والقبول أو الرفض قبل عقده وليس بعد ذلك، وإن صار الاتفاق يتحمّل الأطراف النتائج. وينبغي أن تحرص المرأة على تسجيل العقد في سجلات الدولة الرسمية فقد يموت الزوج ويطلب منها العدة، وتستحق الميراث وكيلا تقع خصومة بين أولادها وبين أولاده من الأولى بعد موته، وتسلم من المشاحنات وتضمن حقها في الإرث.
جوهر الموضوع - من وجهة نظري - هو حفظ الحقوق في أي نوع من أنواع الزواج من خلال شروط العقد والإيفاء بها، فالعقد شريعة المتعاقدين، وعلى المرأة التأكد من أنها قد اتخذت الضمانات كافة لما قد يطرأ من تغير في حياتها واحتمالات تعرضها للخداع والاستغلال. فماذا ينفع المرأة في أن تكون في زواج عادي شرعا، ولكنه واقعا سيئ ويحط من كرامتها يوميا وبأشكال متعددة، ولا يراعي فيها الزوج أبسط حقوقها بل يزني عليها وتضطر السكوت. علينا أن نقر بأننا قبل المسيار الذي لا يمثل لدينا هما، أن نضمن للنساء في الزيجات العادية منافذَ مفتوحة للعدالة ومؤسسات قضائية بقضاة محايدين، وأن نزيد وعي النساء بحقوقهن من خلال عقود الزواج المشروطة.
إقرأ أيضا لـ "فريدة غلام إسماعيل"العدد 1706 - الثلثاء 08 مايو 2007م الموافق 20 ربيع الثاني 1428هـ