قدم الباحث الكويتي عبدالله النفيسي (قناة الجزيرة - برنامج بلا حدود - 12/2/2003) في اجاباته عن اسئلة مقدم البرنامج احمد منصور، صورة عن طبيعة الافكار السائدة في الاوساط الثقافية العربية عموما والإسلامية منها خصوصا عن الصراع الدولي (مرتكزاته، ادواته، اساليبه) وطرق التعاطي معه.
ففي اجابته عن سؤال مقدم البرنامج عن الموقف الفرنسي/ الالماني/ البلجيكي من الحرب (العدوان) على العراق قال: «انه خلاف على المصالح»، سانده مقدم البرنامج - من المدرسة الفكرية نفسها - قائلا: «خلاف على الحصة من الكعكة»، في اشارة إلى النفط العراقي، وافق النفيسي على اضافة منصور الايضاحية بتكرارها.
نعم اصاب النفيسي عندما قال: «انه خلاف على المصالح» ولكنه اضعف اجابته عندما قالها باستخفاف واضح، وزاد اجابته ضعفا عندما تحدث بعد ذلك عن علاقة المسئولين الاميركيين الكبار (ديك تشيني، كوندوليزا رايس) بشركات النفط وحصولهم على مكاسب مادية مباشرة نظير تقديم خدمات إلى اللوبي النفطي.
اين العيب في ان تكون المصالح وراء المعارضة الفرنسية/ الالمانية/ البلجيكية والصينية والروسية والهندية. ان المصالح - وفق السائد دوليا الذي لا يتفق مع ثقافتنا الاسلامية التي تشترط ان تكون وسائل تحقيق المصالح شريفة وعادلة - اساس السياسات، والسياسة هي تحقيق مصالح. والدول تجهد نفسها وتتحول من وسيلة إلى اخرى بحسب الظروف لتحقيق المصالح العليا فاذا عجزت عن تحقيقها بالطرق السلمية لجأت إلى القوة.
اخشى ان يكون في خلفية موقف النفيسي ظل لاطروحة، طالما كررها الاسلاميون، «الكفر ملة واحدة» التي دفعتهم إلى استبعاد حصول صراع لأسباب اخلاقية ومبدئية وانسانية بين هذه الدول.
اما النقطة الثانية، وهي الاكثر اهمية، فحصر النفيسي للمصالح بحصة من الكعكة، وهذا يجعلها ذات طبيعة اقتصادية.
انه استنتاج لا يأخذ في الاعتبار حيثيات اللحظة وطبيعة الموقف، ذلك لأن اللحظة التي يعيشها النظام الدولي دفعت الادارة الاميركية إلى اتخاذ خطوات عملية، عبر فتح ملف «اسلحة الدمار الشامل» في العراق وعلاقة النظام العراقي بتنظيم «القاعدة»، لحسم الصراع على طبيعة النظام الدولي الجديد تنفيذا لرؤية اميركية تنطلق من «حق» الولايات المتحدة في لعب دور شرطي العالم. فالادارة الاميركية التي حددت في وثيقة «عقيدة الأمن القومي للولايات المتحدة» التي صدرت بتاريخ (20/9/2002) سياستها بـ:
1- حرية الولايات المتحدة في شن حرب اجهاضية او استباقية ضد الارهاب او دول تمتلك اسلحة دمار شامل.
2- عدم السماح لأية دولة او مجموعة دول بتحدي التفوق الاميركي.
3- تفضيل الاجراءات الاحادية والتحرك الاحادي على المعاهدات - والمنظمات الدولية - في منع انتشار الاسلحة النووية.
وهي سياسة تتعارض مع القانون الدولي السائد من جهة، وتمثل من جهة ثانية انتكاسة في العلاقات الدولية، بالعودة إلى سياسة السيطرة والقهر المستندة إلى القوة العسكرية اولا واخيرا.
وهذا يقود إلى قلب بنية النظام الدولي القائم. ويلغي فرص قيام نظام دولي، كما ترغب باقي الدول الكبرى، متعدد الاطراف قائم على احترام القانون الدولي وعلى توازن مصالح عالمي.
لذلك كانت المعارضة الفرنسية والالمانية والروسية والصينية معارضة صلبة، لأن المسألة لا تتعلق فقط بمصالح اقتصادية وحصص يمكن الاتفاق عليها، بل بالمصالح العليا لهذه الدول.
وهي مسألة لا يمكن التساهل فيها لأن ذلك سيعني استسلامها للادارة الاميركية والقبول بإدارتها للنظام الدولي ما يعني خضوعها للهيمنة الاميركية، وان دولا كثيرة لن تسلم لواشنطن بتحقيق نصر استراتيجي بسهولة.
رأت المانيا مثلا في السياسة الاميركية تهديدا مباشرا لرؤيتها القائمة على مكافحة الارهاب وحل الصراع العربي الاسرائيلي لتحقيق مساحة من الاستقرار النسبي لشعوب المنطقة وهي في رفضها للسياسة الاميركية انما ترغب في تطوير موقف اوروبي مستقل بهدف الحد من التفرد الاميركي في الساحة الدولية.
وهذا يفسر رد الفعل الاميركي الحاد والشديد على المعارضة الفرنسية/ الالمانية، والالمانية خصوصا، لأن المعارضة الالمانية تعني وفق مأمون فندي - الموالي للادارة الاميركية - «ان المانيا تبحث عن دور دولي»، واذا اصرت المانيا على دور دولي «فإن ذلك يعني تغييرا في المناخ الاستراتيجي او البيئة الاستراتيجية العالمية».
افرزت المعارضة الفرنسية/ الألمانية/ الروسية والصينية للسياسة الاميركية نتيجة مهمة «لا تستطيع الولايات المتحدة الذهاب إلى الحرب منفردة ومن دون قرار دولي من مجلس الأمن»، ولكن هذا لن يكون نهاية المجابهة، لأن الاشتباك الحالي اسس لحرب باردة جديدة بين اوروبا (متحالفة مع روسيا والصين) والولايات المتحدة، وهذا سيجعل سيطرة واشنطن على القرار الدولي محدودة ومؤقتة، ما يرتب تشجيع وتشكيل تيار عريض لمواجهة السياسة الاميركية، عنده القدرة على احتواء وشل عدوانيتها ودفعها لقبول نظام دولي تعددي
العدد 170 - السبت 22 فبراير 2003م الموافق 20 ذي الحجة 1423هـ