يعدّ مجتمع البحرين نموذجا لمجتمع تعددي ذي انقسامات واضحة على أساس طائفي وقومي وديني وايديولوجي. وفي هذا النوع من المجتمعات، فإن طبيعة المجتمع بحد ذاتها تمثّل أزمة، وهي أزمة عادة ما تمتدّ وتعيد إنتاج نفسها إذا لم يجرِ التعامل معها بقدرٍ عالٍ من المسئولية والاعتراف والتسامح. وفي هذا المقال سنستعرض ثلاثة نماذج سياسية قدّمت نفسها على أنها صيغ سياسية/ اجتماعية تلائم المجتمعات التعددية. وهذه النماذج هي: الديمقراطية التوافقية، التنوع العميق والوطنية الدستورية.
أما فيما يتعلق بالنموذج الأول فقد قدّم آرنت ليبهارت مفهوم الديمقراطية التوافقية في العام 1969، واستمر ينظّر له طوال ثلاثة عقود. وفي العام 2000 كتب مقالا اعترف فيه بأن كتاباته تبدو متناقضة وربما سببت نوعا من التشويش بين القراء، إلا أنه يشدّد على أن «البديل التوافقي» هو الأكثر ملاءمة للمجتمعات التعددية، وحيثما يوجد اختلاف عميق فإن هذا البديل هو الصيغة الأكثر ملاءمة. لأن هذا البديل يتحاشى استثارة الولاءات الأولية ذات الصلابة الشديدة التي لا سبيل إلى استئصالها أو تذويبها، وهو «يقدم طريقة واعدة أكثرَ لتحقيق الديمقراطية المقرونة بقدرٍ كبير من الوحدة السياسية» (الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد، ص 45)، وكما أنه يقدّم ضمانة كبيرة لحماية الأقليات التي تشعر بالخطر والتهديد من قِبل الأغلبية الحاكمة أو المشرّعة (ص 64). أما ما يجعل هذا النموذج ملائما لمجتمع تعددي مثل البحرين فهو أن البحرين دولة صغيرة ومحدودة السكان، وبحسب ليبهارت فإن «لصغر الحجم تأثيرات مباشرة وغير مباشرة على احتمال قيام ديمقراطية توافقية واحتمال نجاحها» (ص 106). وتقوم الديمقراطية التوافقية على أربع سمات هي: الحكم من خلال ائتلاف واسع، والفيتو المتبادل، والتمثيل النسبي، والاستقلال النسبي لكل جماعة في إدارة شئونها الداخلية.
هناك انتقاد مهم وُجِّه إلى هذا النموذج، وهو أن الديمقراطية التوافقية ستصبح عقبة أمام التحول الديمقراطي الحقيقي من خلال تأبيد التنوع الطائفي وتخليده، إلا أن على أصحاب هذا الانتقاد أن يتذكروا أن الخيار في المجتمعات التعددية المتنافسة - كيلا نقول المتخاصمة والمتحاربة - ليس بين الديمقراطية التوافقية والديمقراطية الحقيقية، بل هو بين الانزلاق إلى نزاعات وحروب أهلية أو الانفصال وتجزّؤ الدولة إلى دويلات صغيرة من جهة، وبين تعطيل هذه الخيارات من خلال التوافق الجماعي من جهة أخرى. فبالنسبة إلى دولة مثل السودان يقترح أحمد الشاهي أن الديمقراطية التوافقية هي الحل المفضل لمشكلة التعددية والتنوع فيه، أما البديل عن هذا النموذج فليس هو الديمقراطية الحقيقية (التمثيلية)، بل هو انفصال الجنوب والغرب والشرق، وقد «يؤدي هذا الانفصال إلى نشوء دول صغيرة وينتهي الأمر بصراعات لا تعرف نهاية حول الحدود والموارد» (الديمقراطية التوافقية في السودان، ص 123). والذي يقال عن السودان ينطبق بدرجة كبيرة على العراق اليوم. فالبديل عن الديمقراطية التوافقية هناك هو استمرار الحرب الأهلية الطائفية (والعرقية فيما بعد) أو تفكك الدولة المركزية وانفصال الجنوب الشيعي، والوسط السني، والشمال الكردي. وفي الحقيقة هناك دراسات أثبت تجريبيا، وبمقاربات كمية، أن ثمة علاقة وثيقة جدا بين تطبيق الديمقراطية التوافقية وتحقيق السلام الدائم في المجتمعات التعددية وخصوصا بعد الصراع والحرب الأهلية. ومن هذه الدراسات دراسة أجريت على 118 مجتمعا من مجتمعات ما بعد الصراع في الفترة بين 1985 و2002، وانتهت إلى أن الديمقراطية التوافقية هي أكثر الصيغ السياسية ملاءمة للمجتمعات ذات الانقسامات الحادة، وهي الأكثر قدرة على حفظ السلام الدائم في مجتمعات ما بعد الصراع، كما أنها قادرة على ضمان الاستقرار السياسي في المجتمعات التي تشهد تنافسا حادا بين الجماعات المختلفة (Consociational Democracy and Postconflict Peace,P.2-4).
إلا أن المحذور الحقيقي في الديمقراطية التوافقية يكمن في الجمود الذي يعطل قابلية النظام السياسي للتطور واستيعاب المتغيرات. وعلى هذا، ينبغي التشديد على ضرورة أن يكون هذا التوافق مرنا لا جامدا كالديمقراطية التوافقية في لبنان بحيث يتعرّض النظام السياسي للانهيار أو الانفجار من الداخل تحت ضربات المتغيرات المستجدة، التي لا يستطيع التوافق الجامد أن يستوعبها.
أما النموذج الثاني فهو نموذج «التنوع العميق» عند تشارلز تايلر، ويشير هذا المصطلح إلى مجتمعات ذات تعددية ثقافية متجذرة وعميقة. وفي هذه الحالة فإن هذا النوع من المجتمعات لا تتوافق مع نموذج الدولة - الأمة على الإطلاق بحكم أن حدود الدولة تنطوي على تنوع عميق في الهويات والانتماءات القومية والدينية والطائفية وغيرها. وبحسب هذا التصور فإن النظام السياسي في هذه المجتمعات ينبغي أن يتأسس على الاعتراف بهذا التنوع والقبول به، ويستلزم هذا القبول أن تكون المعايير الدستورية والسياسية ملتزمة بالحفاظ على هذا التنوع لا استئصاله. ويفترض التنوع العميق أن الولاء في الدولة يكون لقيم ومبادئ يجري التوافق عليها في الدستور، على أن يكون من حق الجماعات أن يكون لها هويتها الثقافية الخاصة، وحس الانتماء إلى جماعات صغرى أكثر اندماجا من خلال كيان الدولة الأكبر. والذي يجعل هذا النموذج قريبا من الديمقراطية التوافقية أنه يفترض أن المجتمعات ذات التنوع العميق لا تحتاج إلى «نظام ديمقراطي تمثيلي مؤسس على حكم الأغلبية. فهذا قد يصلح في نموذج الدولة - الأمة، في حين أن التنوع العميق مؤسس، بدلا من هذا، على ديمقراطية المحاسبة (audit democracy)». وكما في الديمقراطية التوافقية فإن نموذج التنوع العميق يفترض أن لكل جماعة حق «الفيتو» على كل القرارات والتغييرات المصيرية مثل تغيير الدستور.
ولأن الأزمة في البحرين ذات خصوصية متفردة ولا تنحصر في كيفية إدارة الحكم والتشريع في مجتمع تعددي وعميق التنوع، فإن هذين النموذجين قد يكونان قادرين على تجاوز أزمة واحدة وهي أزمة التنافس المحموم بين الجماعات المتعددة على تحصيل القوة وأسبابها داخل الدولة، إلا أن الأزمة الأخرى وهي «أزمة الولاء» تبقى رازحة من دون حلّ أو بديل يتجاوزها. ومن هنا يكتسب بديل هابرماس أهميته، فهو يتحدث عن بديل يكمن في «الوطنية الدستورية» أي الوطنية التي لا تقوم على مصادر الوطنية التقليدية المؤسسة على الولاء للهوية الموحّدة والتقاليد واللغة والدين والتاريخ المشترك. وهذا البديل يحيّد هذه الانتماءات، ولهذا يتحاشى التصادم معها أو استثارتها، بل يمكن للأفراد في هذا البديل أن يطوّروا ما يسميه هابرماس «الهويات ما بعد العُرفية» أو «مجتمعات ما بعد التقليدية».
وبحسب جون فوسوم فإن الوطنية الدستورية - أساسا - هي «صيغة من صيغ الولاء»، إذ تحدّد الوطنية الدستورية مركز الولاء في مقولات واضحة وهي القيم والمبادئ والمعايير التي ينطوي عليها دستور ديمقراطي. وهذا يعني إغلاق باب الشر الذي يأتي من «أزمة الولاء» حين يكون في صيغة ولاء لمقولات خلافية من قبيل القومية، العرق، الدين، الطائفة، التراث، التاريخ، أسلوب الحياة... إلخ. فالدستور هو مركز الولاء السياسي وهو مصدر لإنجاز الإجماع الوطني. وبهذا المعنى فإن الدول تحتاج إلى الولاء، إلا أن هذا الولاء يستلزم أن يكون مركزه أو مرجِعيته خارج دائرة الخلاف والتنازع ليكون ولاء موحدا.
ويذكر أن مفهوم الوطنية الدستورية قد وُلِدَ في ألمانيا المقسمة بعد الحرب العالمية الثانية، وكان يُنظر إليه في بادئ الأمر على أنه بديل هزيل للهوية الوطنية الموحدة (الأمة الألمانية). وفيما بعد توحّد الألمانيتين صار يُنظر إلى هذا المفهوم على أنه هامشي وزائد على الحاجة. إلا أن التسعينات كشفت عن أن الوطنية الدستورية عبارة عن «وصفة جذّابة» لتأسيس «الرابطة المدنية في المجتمعات التعددية بصورة كبيرة، وفي السنوات الأخيرة صار يُطرح على أنه بديل يقدّم مفهوما واضحا للاندماج المدني» (Three Objections to Constitutional Patriotism. P.195).
ويتحقق الاندماج المدني من خلال توحد ولاء المواطنين في «رابطة مدنية موحدة» وهي رابطة الاشتراك في قيم وحقوق وواجبات مدنية وسياسية موحدة ينص عليها الدستور بما أنه يمثل العقد التأسيسي للمواطنة. وهذا يعني أن الفرد يصبح مواطنا لا من خلال هويته الثقافية أو الإثنية أو الدينية (و «إسرائيل» استثناء واضح، وبحسب مارك ليلا، في مقال له في «The New Republic»، فإن معضلة «إسرائيل» تكمن في أنها دولة مؤسسة على نموذج الدولة - الأمة، وهذه جناية ترجع أصولها إلى أزمة الدولة - الأمة في أوروبا وإلى تفكير المؤسسين الأوائل للصهيونية حين طرحوا أن خلاص الأمة اليهودية يكون من خلال تأسيس دولة خاصة بهم)، ولا بمجرد حصوله على جواز السفر، بل هو يصبح مواطنا إذا تمتع بالمواطنة المدنية، وعندئذٍ يكون «جواز السفر» علامة على هذه المواطنة. ومفهوم الوطنية أو المواطنة المدنية مفهوم قريب من الوطنية الدستورية عند هابرماس، وقد طرحه بريان باري حين تعرّض لإشكالات دمج المهاجرين في الدول الأوروبية. وهو يرى أن الوطنية المدنية هي بديل ناجح لسياسات الدمج والصهر والاستيعاب؛ إذ ليس المطلوب من أحد أن يتخلى عن هويته الثقافية (دينه وعاداته ولغته وتاريخه...) ليكون مواطنا؛ لأن المواطنة تتحقق حين يتمتع المرء بحقوقه السياسية والمدنية. أما أندرو ماسون فيذهب إلى القول إن الديمقراطية الليبرالية لا تحتاج إلى شراكة في الهوية الوطنية الثقافية، بل إلى ما يسميه «حسّ الانتماء إلى الدولة»، وهذا المعنى هو الذي يعنيه باري بالوطنية المدنية. وبهذا المعنى تصبح هذه الوطنية تسوية بين نوعين من الوطنيات: الأولى متعذرة وغير ضرورية وهي الوطنية الثقافية/ الإثنية، والثانية وطنية هشّة وهي ما يسميها باري «وطنية جواز السفر». فإذا كانت الأولى متعذرة وغير ضرورية فإن الثانية لا تصمد أمام متطلبات الوطنية المدنية، وهي التي تنطوي على حقيقة أن المواطن يتمتع بكامل حقوقه السياسية والمدنية، وفي الوقت ذاته «يكون مستعدا ليعطي (الدولة) أكثر من المال، للتضحية برفاهيته، وربما بحياته إذا تطلب الأمر» (Culture & Equality: An Egalitarian Critique of Multiculturalism, P.80). وتصبح هذه التضحية «واجبا دستوريا» على المواطن. وبهذا المعنى فإن الوطنية الدستورية/ والمدنية تقوم على معادلة كالآتي: يتحصّل المواطن على حقوقه السياسية والمدنية مقابل تعهده المبدئي بالالتزام بالواجبات الدستورية. وبعد هذا لا يكون المواطن خاضعا للمساومة على ولائه الوطني. لأن باب الفساد والتأزمات إنما ينفتح حين تنشأ مطالبات بالولاء خارج إطار الوطنية الدستورية هذه. وعن هذه التأزمات سيدور مقالنا في الأسبوع المقبل إن شاء الله.
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1698 - الإثنين 30 أبريل 2007م الموافق 12 ربيع الثاني 1428هـ