تمثل إصلاحات العام 1923 نقطة انطلاق مهمة في هذه المهمة العسيرة والمتعثرة: تأسيس الوطنية المدنية ومن ثم إنجاز التوافق داخل الدولة، وذلك من خلال تأكيد هذه الإصلاحات على طابع التنظيم البيروقراطي الجديد العام والحيادي. ولقد عبّر الكرنل تريور رئيس الخليج عن مقصد هذه الاصلاحات التي صارت «مستوجبة» في العام 1923 بقوله: و «المقصد من ذلك إجراء حسن السلوك والمساواة والعدالة المرضية في حق الجميع» (قلائد النحرين، ص430). ويتطلب إنجاز المساواة والعدالة المرضية في حق الجميع أن يكون الجهاز المكلَّف بهذه المهمة - وهو هنا جهاز الدولة - حياديا تجاه الجميع؛ لأن التمييز هنا يعني الانحياز من قبل الدولة لصالح جماعة ما دون سائر الجماعات. ولأن الدولة، حديثة النشأة، كانت غير مستعدة للدخول في مواجهة خاسرة لاستئصال ولاءات الأهالي الأولية (الولاء للطائفة)، فقد عمدت إلى مأسسة هذه الولاءات من خلال تأسيس مؤسسات رسمية ذات درجة عالية من الاستقلال لكل طائفة في إدارة شئونها الدينية الخاصة، فأنشأت محكمة شرعية جعفرية وأخرى سنية، ودار للأوقاف الجعفرية وأخرى للأوقاف السنية، وتجاوز هذا إلى توفير درجة عالية من استقلال كل طائفة بإدارة شئونها المدنية مثل التعليم حيث كانت هناك في بادئ الأمر لجنة أهلية جعفرية تشرف على مدرستي الشيعة (المباركة العلوية والجعفرية)، ولجنة أهلية خيرية سنية تشرف على التعليم في مدرستي السنة (الهداية في المحرق والمنامة، ويُذكر أن الهداية كانت توصف في أيام التأسيس الأولى بأنها «مدرسة دينية»)، واستمر الحال على ما هو عليه من استقلال وانقسام إلى أن جرى توحيد المدارس حين تحوّل التعليم النظامي من الإشراف الأهلي إلى الإشراف الحكومي المباشر، وذلك في العام 32/1933 حيث تم دمج اللجنتين السنية والجعفرية، وأصبح التعليم تحت إشراف الحكومة مباشرة.
هناك من ينتقد هذه الدرجة العالية من الاستقلال الطائفي في إدارة الشئون الدينية الخاصة، ويرى أن هذا الاستقلال قد عمّق الانقسام الطائفي بين الشيعة والسنة. وهذا صحيح لأن استقلال كل طائفة بإدارة شئونها الخاصة يعني أن الهوية الطائفية صارت جبرية ولا فكاك للإنسان منها، ومن المهم أن نشير إلى أن هذه الحالة لم تعمّق الانقسام الطائفي فحسب، بل هي مرشّحة بقوة لخلق انقسامات جديدة داخل كل طائفة بسبب التنافس الذي ينشأ عادة بين الجماعات الفرعية من أجل الاستحواذ على هذه الإدارات.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا أهم انتقاد يوجّه إلى الديمقراطية التوافقية على وجه العموم، فبحسب المتحفظين على هذا النموذج فإن التوافق «يصبح بعد فترة من الفترات عقبة أساسية أمام عملية التحوّل الديمقراطي ذاتها، إذ إن هذه الدينامية تصطدم بممانعات أو حواجز جرى ترسيخها» عبر هذا التوافق الذي اعترف بهذه الحواجز، بل «خلّدها وأبّدها عندما أعطاها اعترافا شرعيا وقانونيا» (رضوان زيادة، الديمقراطية التوافقية كمرحلة أولية في عملية التحوّل الديمقراطي في الوطن العربي، 89). ولهذا يطالب هؤلاء بأن تكون الديمقراطية التوافقية مرحلة انتقالية أولية في عملية التحول الديمقراطي، وينبغي، لهذا، أن تتأسس على أسس «العدالة الانتقالية» (ص94).
كل هذا صحيح، إلا أن الصحيح أيضا أن الإدارة الحكومية بهذا العمل قد ضمنت تحييد مصدر مهم من مصادر تهديد النظام الجديد، وهو التنافس الطائفي على الدولة بغية توظيفها لصالح إدارة الشئون الدينية للطائفة الأقوى دون الآخرين. وكان يمكن أن تكون العواقب كارثية فيما لو أعطيت الطوائف درجة عالية في إدارة شئونها المدنية (التعليم والصحة والبلدية...)، لا لأن هذا سيخلق عزلة اجتماعية شبه كاملة بين الطائفتين فحسب، بل لأنه سيخلق مطابقة خطرة في البلاد وهي المطابقة بين الطائفة والأسرة الحاكمة، لأن الشيخ عبدالله بن عيسى آل خليفة هو من كان يرأس الإدارة الخيرية للتعليم في الجانب السني. ولو قُدِّر لهذا الحال أن يستمر لكان الوضع الطائفي متأزما بصورة أشدّ مما كان عليه.
لقد أنهت عملية دمج التعليم هذا الخيار الموسوم بالأزمات، وأصبح الخيار مركّزا على تأسيس «مجال مدني عام»، تديره الدولة وتشرف عليه من خلال مؤسسات وقوانين وتنظيمات إدارية شاملة وحيادية في الوقت ذاته. إلا أن هذا الخيار يتعرّض لانتكاسات في كل عقد من الزمان. وأتصور أنه ليس ثمة من فرصة ممكنة لبلوغ هذا الخيار مستقره الأخير إلا بعد إنجاز عملية التوافق العام داخل الدولة، ونجاح التوافق مرهون بمراجعة حقيقية لجملة المعوقات التي تقف في وجه بناء «دولة المواطنة الدستورية التوافقية» بوصفها الإطار الأكثر جدوى لتحقيق التوافق بين الجماعات والقوى. وستقودنا هذه المراجعة إلى المضافرة بين ثلاثة نماذج نظرية كلها تؤسس لصيغ سياسية متوافقة مع المجتمعات الموسومة بالتعدد والتنوع، وهذه النماذج هي: الأول هو ما يسميه آرنت ليبهارت وآخرون بـ «الديمقراطية التوافقية» consociational democracy، والثاني هو ما يسميه يورغن هابرماس بـ «الوطنية الدستورية» constitutional patriotism، والثالث هو ما يسميه شارلز تايلر بـ «التنوع العميق» deep diversity.
وفي مقالة الأسبوع المقبل سنقترب من التنوع البحريني في ضوء هذه النماذج الثلاثة التي وجّهت إليها انتقادات مهمة، إلا أن المضافرة بينها كفيلة بصياغة نموذج تركيبي متوافق مع الحالة البحرينية. أو على الأقل، هذا ما نأمله.
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1691 - الإثنين 23 أبريل 2007م الموافق 05 ربيع الثاني 1428هـ