لقد بدأ عصر اللكينزية في الأفول منذ أزمة السبعينات التي مرّت بها الدول الصناعية الكبرى وسببت كسادا وتراجعا في الإنتاج، فعادت الدعوات لتبني الرأسمالية بصورتها المطلقة القديمة والتي أُطلق عليها «الليبرالية الاقتصادية الجديدة» وتوجت هذه الأفكار بانتصار ثاتشر برئاسة الحكومة في بريطانيا العام 1979 وريغان برئاسة الولايات المتحدة في العام التالي. ونتيجة للجمود العقائدي وأسباب كثيرة أخرى، جاء انهيار الاتحاد السوفياتي وفشل نموذج الاشتراكية فظهر ذلك وكأنه انتصار للفكر الليبرالي، حينها تعالت أصوات الليبرالية الاقتصادية الجديدة والتي تدعو إلى العودة إلى الرأسمالية بشكلها المطلق القديم، فألقت اللوم فيما جرى على سياسة تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية التي أسس لها جون كينز في الأربعينات.
وبعد انهيار التجربة الشيوعية بانهيار الاتحاد السوفياتي، بدأت الدعوات لعولمة الليبرالية الاقتصادية الجديدة، ابتداء من دعوات الإصلاح الاقتصادي حيث رضخت بلدان العالم الثالث التي وقعت أسيرة 1500 مليار دولار ديونا خارجية العام 1989، لاشتراطات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فكانت البداية لهذه العولمة التي تدّعي أن الحل لتخلف العالم الثالث يكمن في العودة لتبني الرأسمالية بصورتها المطلقة القديمة، وهذا يتطلب تفعيل مبدأين: الأول، تبني حكومة الحد الأدنى، وهي عبارة مطاطة، ولكن في المجمل يركزون على أن يقتصر دور الحكومة على الأمنين الداخلي والخارجي وتطبيق القانون، والثاني تفعيل فكرة الأسواق الحرة واعتماد قوى السوق وآلياتها في توزيع الثروة وحرية الإنتاج.
وطبعا فإن ما مضى يعني - على الأقل نظريا - تجنب فكرة العمالة الكاملة، وتيسير الخصخصة، ورفع يد الحكومات عن تقديم الدعم للسلع الضرورية والخدمات الأساسية للشعب، لأن ذلك يعد تدخلا في الشأن الاقتصادي وحرية السوق التي ينبغي أن يتحكم فيها قانون العرض والطلب. وكذلك اعتبار الرأسمالية المحلية ركيزة العمل الاقتصادي والتنموي، وإفساح المجال أمام الاستثمارات الأجنبية، والاندماج التام في الاقتصادي الرأسمالي المعولم. وفي هذا الإطار فإن من الطبيعي أن يكون رأس المال هو السيّد الأول وكذلك سيتسع دور الشركات المتعدية الجنسيات.
وفي خضم هذه العولمة التي أصبحت تيارا جارفا أخذ معه بعض الدول النامية، مازالت دول أخرى تقاوم بعنف، وترى أنه وفي ظل ميزان القوى الاقتصادية المائل بشدة لصالح الدول الرأسمالية المتقدمة، فإن دعوات إصلاح الهيكل الاقتصادي وتنويع الدخل التي ظل صداها يتردد لعقود من الزمن، ستذهب سدى، إذ سيتكرس تقسيم العمل الدولي مرة أخرى كما كان أثناء وبعد عصر الاستعمار، وذلك بعد سنوات وعقود من جهود تنويع الدخل، ذلك التقسيم الجائر الذي يجعل من الدول النامية متخصصة في إنتاج المواد الأولية الرخيصة فقط، وكذلك ستنهار المؤسسات والصناعات الوطنية التي ستعجز عن مجاراة رأس المال الأجنبي وقدرته على توفير منتجات مماثلة أفضل وأرخص. ويرى بعض الباحثين أن دور بعض أصحاب رؤوس الأموال سيتركز في كسب مزيد من المال بواسطة لعبة الأوراق المالية وبيع وشراء الأسهم، وتثمير المال بواسطة الفوائد الربوية، ما يهدد باستجلاب مشكلات الغرب الذي أدى التركيز على هذه المجالات إلى ظهور بعض أزماته، وبالتالي ستصبح عولمة النظام الاقتصادي الرأسمالي مجرد حلول لمشكلات الدول الصناعية المتقدمة وفي مقدمتها الولايات المتحدة، وخصوصا أن ذلك كله يتواكب مع قمع أي نزوع استقلالي في القرار السياسي، وخصوصا مع الدول النامية الغنية بالنفط كدول الخليج التي أبرمت الولايات المتحدة مع بعضها اتفاقات التجارة الحرة، ورفضت التعامل معها ككتلة خليجية واحدة مثل دول السوق الأوروبية المشتركة.
وفي ظل العولمة الموعودة، ستنتهي المصالحة بين رأس المال والعمل التي قامت بعد الحرب العالمية الثانية متواكبا آنذاك مع ازدياد تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية وفقا للكينزية، إذ تتهدد العولمة موقف العمال وإضعافه لأقصى حد، وقد تصبح حرية العمل النقابي حرية شكلية، تأثيرها لن يكون ذات جدوى في ظل حرية انتقال وتوظيف القوى العاملة بين مختلف الدول، وبالذات في دول الخليج التي يشكل فيها الأجانب أكثر من 60 في المئة من السكان. بجانب كل ذلك، فإن الرأسمالية المحلية التي يؤمل تعاونها مع رأس المال الأجنبي هي في الحقيقة عناصر مقربة للطغم الحاكمة في البلدان المتخلفة، ولن تساهم على نقل البلد لمرحلة تساهم في تخفيف تغوّل الدولة على المستوى السياسي كما يأمل بعض المثقفين، لأن الحقيقة أن التغوّل كامن في هذه العناصر ذات المناصب العليا والتي توظف مناصبها من أجل استثماراتها الخاصة وليس في مؤسسات الدولة التي تدخل في نطاق الملكية العامة. وينطبق هذا بالذات على الدول النفطية التي مازالت في غنى عن القطاع الخاص فيما يتعلق بإيرادات موازناتها العامة.
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1689 - السبت 21 أبريل 2007م الموافق 03 ربيع الثاني 1428هـ