مع النسمات الأولى من صباحات كوبنهاغن المنعشة برودة وإلهاما وأملا، تمرّ بخاطري الدلافين البحرينية المتكاثرة قريبا من نادي اليخوت، وأتذكر الباحثة البريطانية الشابة وهي تستميت في بحثها عن دلفين بلغها أن أحدا رآه في البحر يئن من أثر جرح غائر في ظهره.
وتكتسب عيوني لمعة صالحة وأنا أتذكر عرائس البحر التي أثرت مياه خليجنا العربي بثاني أكبر قطيع لها في العالم.
ويمرّ بخاطري ورقتي التي قدمتها في منتدى الشعاب المرجانية والسلاحف البحرية الذي عقد في أبوظبي في نهاية العام الماضي وكيف بدأتها بأنني لا أستطيع تقديم ورقة ممتعة كزملائي من الدول الأخرى لأننا في البحرين لا نعرف عن سلاحفنا البحرية إلا جد قليل، لكن المنظمين قالوا إن ورقتي كانت ممتعة ومفيدة جدا بل استشهدوا ببعض ما جاء فيها في مواقف مختلفة، ربما لأنني عندما كنت أعدها كخلاصة لتجربتي وتجارب زملائي من محبي البيئة البحرية كانت تتمثل أمامي صورة السلحفاة التي صيدت قبل أكثر من عشرين سنة وأوتي بها من مكان بعيد لتذبح وتأكل في البحرين من قبل بعض الصيادين، إلا أن أحدهم (على الأقل) احتفظ في ذاكرته بحزنها وألمها ودموعها التي كانت تتساقط في عينيها ربما حنينا لموطنها أو إشفاقا من المصير الذي ينتظرها، ونجح في زرع تلك الصورة بذاكرتي وشعوري حتى أنني أحسب أنني كنت معهم.
ثم أتسأل في كل لقاء عائلي مع أبناء أخوالي وعمومتي: كيف تعارضين إقامة جسر المحبة؟ أليس هذا ما حلمنا به طويلا مذ كنا أطفالا؟ عائلاتنا كمعظم العوائل العربية موزعة في مناطق الجزيرة العربية ولاسيما قطر... كيف تعارضين الجسر؟
قطر، الذي خرج شبابها بسياراتهم في شارع الكورنيش البديع (الكورنيش الذي حق لقطر أن تفخر به إذ يستطيع القطري والزائر والمقيم أن يمشي بمحاذاة البحر من دون أن يقطع طريقه شيء لمسافة تزيد على الثمانية كيلومترات)، في ذلك الشارع الذي يحبه شباب قطر خرجوا بسياراتهم بعد انتهاء الخلاف القطري البحريني على جزر حوار، رافعين العلم القطري فرحين وإلى جانبه العلم البحريني محتفلين بانتهاء الخلاف بين الأشقاء.
قطر بكل ما تمثله لنا من معانٍ طيبة وبكل آمال معقودة على المزيد من التعاون والتكامل معها، هي ليست المشكلة.
المشكلة التي تقلقنا نحن البيئيين وتقض مضاجعنا هي أن الجميع قد أحيط علما بالآمال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي ستتحقق للبحرين عندما يقام الجسر، لكننا جميعا لا نعرف شيئا عن الآثار المحتملة لإقامته على البيئة ولاسيما البيئة البحرية وخصوصا أن الجسر يقام في مياه البحرين الشرقية إذ تقع أهم مصائد الأسماك البحرينية وحيث فشت العظم الذي ناضل التكتل البيئي في الدفاع عنه منذ ثلاث سنوات وحيث تقع موائل بحرية مهمة كالحشائش البحرية التي تتغذى عليها عرائس البحر والسلاحف البحرية، وتقع مسارات هذه الكائنات البحرية المهددة بين جنوب وشمال البحرين عبر سواحلها وبحارها الشرقية.
ارتفعت الأصوات قبل أشهر قليلة بشأن ارتفاع أسعار الأسماك كمشكلة تهم المواطن، تحدث عنها نواب الشعب وكتاب الأعمدة والجمعيات السياسية والمؤسسات الحكومية والمجالس الشعبية.
وحدهم البيئيون قالوا حينها ويقولون الآن إن غلاء الأسماك مظهر أو عرض من أعراض المشكلة الحقيقية وهي تهديد الثروة السمكية وثروات البحر من خلال تدمير الموائل بالدرجة الأولى.
الجسر هو إنشاءات ستقام في وسط بحرنا وساحله وستكون لها آثار بيئية كبيرة.
ما نطالب به هو معرفة تلك الآثار وإعلانها للجميع قبل البدء بتنفيذ المشروع (وإن كان مطلبنا القديم أن يتم ذلك قبل إقراره كمشروع أصلا)، وأن يسمح للجميع وأولهم الجهات المعنية من مؤسسات المجتمع المدني وغيرها بالاطلاع وإبداء الرأي والسؤال والنقاش وتوفير الجو والوقت والفرصة الكافية لهذا الاطلاع والدراسة.
بل إن من أساسيات إجراء دراسات تقويم الأثر البيئي أن يتم اطلاع مؤسسات المجتمع المدني المعنية والجهات التي من الممكن أن تتضرر مصالحها على المشروع واستشارتها، وهذا ما لم يتم إطلاقا في هذا المشروع الضخم وفقما أكدته جمعية أصدقاء البيئة ونقابة الصيادين أصحاب العلاقة المباشرة والجمعية الأهلية للهوايات البحرية بل والتكتل البيئي لحماية فشت العظم الذي خاطب وراسل واجتمع ونادى وناضل من أجل حماية فشت العظم!
الأمر الأعجب أن الجهة الحكومية المعنية لم تتم استشاراتها ولا اطلاعها على التفاصيل لأخذ موافقتها!
لكل ذاك ويزيد، نشدد على السادة نواب الشعب بضرورة تحمل مسئوليتهم الوطنية وعدم السماح بتمرير موضوع مؤسسة جسر قطر - البحرين إلى أن يطمئنوا إلى أنهم على علم واقتناع بأنه تم وضع أفضل الاشتراطات والضمانات بتنفيذها لحماية البيئة وليس مصالح الشركات المنفذة أو المستثمرة، وأن هناك جهات محددة ومؤتمنة تتولى الرقابة والمتابعة القريبة وفق آليات واضحة قوية وشفافة وصلاحيات تامة، وأن أي ضرر سيقع على البيئة ولا يمكن تفاديه يجب أن يكون أقل ما يمكن ويجب أن تقابله تعويضات حقيقية وموازية للبيئة البحرية، وأن يكون هذا الضرر مدروسا ومتحكما فيه بصورة دقيقة ومتقنة، وأن أي ضرر خلاف ذلك سيتم التعامل معه بصرامة وسيتم توقيع عقوبات واضحة ومتناسبة مع الضرر بشأنه على المتسبب فيه.
اشتراطات وضمانات وتدابير كثيرة ومهمة يجب أن نطمئن جمعينا أنه سيتم العمل بها وأولنا نواب الشعب الذين يتحملون المسئولية الكاملة عن أصواتهم أمام الله وأمام أنفسهم وأمامنا جميعا وأمام الأجيال القادمة، وذلك لن يتم عبر تأكيدات شفوية من جهة أو شخص ما، إن تم ذلك فعلا... نحن ننتظر ورشة النقاش التي اتفقنا عليها مع لجنة المرافق والبيئة.
آن للبحرين (بتحمل نواب الشعب مسئوليتهم) أن تواكب ركب الدول المتقدمة فتحمي ثرواتها الطبيعية من الزوال...
إقرأ أيضا لـ "خولة المهندي"العدد 1685 - الثلثاء 17 أبريل 2007م الموافق 29 ربيع الاول 1428هـ