انطلقنا في مقال الأسبوع الماضي من النقاش مع أطروحة عبدالهادي خلف من أجل التأسيس لمسلّمة تقول: إن «بناء الدولة» مهمة أنجزت، أما الذي لم يُنجز فهو التوافق الجماعي داخل هذه الدولة، الذي قد يكون هو المُدخل الطبيعي للدولة الدستورية في مجتمع متعدد الثقافات. نقول هذا لأن الانطلاق من مسلّمة أن «بناء الدولة مهمة غير منجزة» سيدخل الفاعلين السياسيين القائلين بذلك في تصادم مباشر مع «دولة قائمة»؛ لأنها سترى في هذا الادعاء نزعا لمشروعية هذه «الدولة القائمة». وسنركز في هذه المقالة على أن هذه المسلّمة قد انطلقت من أدبيات التحديث السياسي والتنمية السياسية لتؤكد أن «بناء الأمة» مهمة غير منجزة. وكما قاد الادعاء بأن «بناء الدولة مهمة غير منجزة» إلى التصادم مع «الدولة القائمة»، فإن الادعاء الثاني حمل أصحابه على الشروع في سياسات «صهر وطني» لاستئصال الولاءات الطائفية الغالبة، وهو ما انتهى بهؤلاء إلى التصادم مع أصحاب هذه الولاءات. وكما كان التصادم مع «الدولة» ضاريا، فإن التصادم مع الولاءات الطائفية لم يقل ضراوة عن الأولى، وأن عواقبه كانت مؤسفة.
في البدء سنقول: إن «بناء الدولة» مهمة أنجزت، وإن هذا البناء كان حدثا أساسيا وحاسما في تاريخ البحرين، كما كانت لهذا الحدث تداعيات جمّة، فكأن الأرض قد زُلزِلَت من تحت أقدام الناس، وكُتِب على الإنسان البحريني الحديث - حكاما ومواطنين - أن يتكيّف مع وضع إداري وتنظيمي جديد ومختلف عن كل أشكال التنظيمات السابقة، والأهم أنه تنظيم حيادي وشامل لكل مجالات الحياة. ويصف ناصر الخيري (ت 1925) إصلاحات العام 1923 بأنها «فاتحة عصر سياسي جديد بالنسبة إلى البحرين، وبداية انقلاب مهم في شكل الحكومة ونظامها ومبدأ انقسام الأهالي إلى وطنيين وأجانب وخارجية وداخلية» (قلائد النحرين، ص 416). وتظهر تجليات هذا الانقلاب فيما طرأ على «نظام السلطة» من تحوّل، وهو التحوّل الذي ألغى - بحسب فؤاد خوري - «نظام المقاطعات» و «تغيير نظام السلطة» إذ تحوّلت «أشكال التفاعل بين مجموعات القبائل والفئات المدينية والفلاحية، وباختصار تحوّل نظام السلطة من التنظيم القبلي إلى الحكم القبلي» (القبيلة والدولة في البحرين، ص 360). وبحسب خوري نفسه، فإن «القبائل» استطاعت أن تتكيّف مع «التنظيم البيروقراطي الجديد»، إلا أن الفشل العام في تحقيق التوافق مع الجميع داخل هذه الدولة قادها إلى السيطرة على «التنظيم البيروقراطي الجديد»، وهو ما عطّل أي إمكان لتحقيق التوافق العام داخل الدولة من قِبل الجماعات الأخرى؛ لأن سيطرة طرف ما على الدولة/ «التنظيم البيروقراطي الجديد» تعني تفريغ هذا التنظيم من حياده الضروري الذي يسمح للآخرين بالاستفادة من خدماته ومن خيراته العامة من دون تمييز ومن دون الشعور بأنهم غرباء وطفيليون يتحصّلون على هذه الخدمات والخيرات لا على أنها «حق دستوري» بل بوصفها منا وتكرّما.
وتتمثل واحدة من التجليات المهمة لهذا العصر السياسي الجديد - الذي يتحدث عنه ناصر الخيري - في تنازع الولاءات الذي سبّبه قدوم كيان سياسي جديد محتاج إلى ولاء من نوع جديد اسمه الولاء السياسي للدولة. وقبل هذا، كانت الانتماءات الطائفية (الشيعية والسنية) هي الولاءات الأولية للأهالي (الولاءات الأولية primordial loyalties مصطلح استخدمه الأنثروبولوجي الأميركي كليفورد غيرتز للإشارة إلى الروابط والمشاعر الأولية التي تقوم على روابط القرابة، القبيلة، العادات، اللغة، المنطقة، الدين والعرق). وفي بادئ الأمر لم يكن هناك تمزّق حقيقي بين الولاء الأولي للطائفة والولاء الناشئ المستجدّ للدولة؛ لطراوة هذه الدولة أولا، ولأنه لم يكن هناك ما يستثير هذا التنازع في الولاء أساسا. والمفارقة هنا أنه مع نشوء الدولة فإن التنازع الذي حكم الولاءات حتى نهاية السبعينات هو التنازع بين الولاء للطائفة من جهة، والولاء للهوية الوطنية من جهة أخرى. وفرق بين الولاء للهوية الوطنية والولاء للدولة. ويظهر الفرق حين نعرف أن الذي كان يدافع عن الهوية الوطنية ويدفع باتجاه «استئصال» ولاءات الأهالي الأولية لم يكن الدولة أو رجالاتها، بل زعماء الحركة الوطنية المعارضون ابتداء من الخمسينات. واللافت حقا أن عبدالهادي خلف يمثل استمرارا لخط هيئة الاتحاد الوطني لا من حيث إنه كان ينتمي إلى تيار سياسي راديكالي تحدّر من الهيئة بعد حلّها في العام 1956 فحسب، بل لكونه يتعامل مع الهوية الوطنية بمنطق ذرائعي بوصفها هوية وسيطة أو هي وسيلة لتحقيق مهمات أخرى «غير منجزة». والفرق بين الاثنين أن عبدالهادي خلف يحدد المهمة غير المنجزة في «بناء الدولة»، في حين كان عبدالرحمن الباكر - أبرز قادة الهيئة - يحدد هذه المهمة في بناء «الوحدة القومية العربية». وبهذا المعنى، كانت هيئة الاتحاد الوطني بمثابة تسوية مثمرة ومعقولة آنذاك بين ولاءين غالبين هما: الولاء الطائفي والولاء القومي. وفي حال كهذه فإن الولاء الوطني يصلح تسوية بين الاثنين، فهو ولاء يقرّب من حدة الافتراق الحاد والكبير بين الانتماء إلى الطائفة، والانتماء إلى القومية.
لقد كان لهذه التسوية دورٌ كبيرٌ في امتصاص التداعيات السلبية التي خلقتها فتنة محرم 1953، إلا أنه من المؤكد أن «بناء الأمة» لم تكن المحصلة النهائية لهذه التسوية ولا لما تلاها من سياسات الصهر أو الاندماج الوطني التي اتبعتها الحركات الوطنية في الستينات والسبعينات. وبدل «بناء الأمة» صار الانتماء الوطني بمثابة «انتماء أوليّ» يضاف إلى الانتماءين الغالبين: الانتماء الطائفي الشيعي، والانتماء الطائفي السني. وبمعنى آخر، أصبح الوطنيون جماعة، أو فريقا إضافيا، أو «طائفة مدنية» ثالثة تتواجه مع سلطة الاستعمار (أيام الحماية البريطانية) والحكومة من جهة، وتتنافس مع الجماعات الشيعية والسنية من جهة أخرى. وربما كان التنافس بارزا إبان الخمسينات بين الوطنيين (من أعضاء الطائفة المدنية الثالثة) والأعضاء المنتمين إلى الطائفة السنية (جماعة الإخوان المسلمين في المحرق)، إلا أن هذا التنافس أصبح تشاحنا خطرا إبان السبعينات حين تواجه هؤلاء مع الأعضاء المنتمين في الطائفة الشيعية داخل البرلمان وخارجه.
وفي انتخابات 2006 بدا واضحا أن هناك جماعة شيعية (الشيعة المنتمون إلى الطائفة)، وجماعة سنية (السنة المنتمون إلى الطائفة)، وجماعة وطنية (شيعة وسنة لا منتمون). وقبل هذا سبق لهذه الجماعات الثلاث (الطوائف الدينية والمدنية) أن تنافست في انتخابات مجلس الطلبة بجامعة البحرين، والانتخابات النقابية، وانتخابات اتحاد العمال. وإذا ما تخلّت جماعة الوطنيين عن طبائع المعارضة الجذرية فإنها ستدخل حلبة التنافس مع الآخرين للمطالبة بحصتها في التعيينات الرسمية لمناصب عليا في الدولة وعضوية مجلس الشورى وغيرها.
لم تؤسس هذه الجماعة الوطنية أمة متجانسة لصلابة الولاءات الأولية من جهة، ولإيمانها المفرط بضرورة تحقيق الانصهار والاندماج الوطني بأي ثمن من جهة أخرى. وقد كان هؤلاء أوفياء لعصرهم بامتياز، وهو العصر الذي هيمنت عليه أطروحات التحديث السياسي وأدبيات التنمية السياسية، وكلها تنطلق من تسليمها المطلق بأن التحديث السياسي يعني الاندماج الوطني، وأن هذا الاندماج يستلزم استئصال الروابط والولاءات الأولية المستندة إلى الطائفة. ومن دون هذا الاستئصال يتعذر تحقيق الاندماج الوطني، ومن ثَمَّ تصبح مهمة بناء الدولة مهمة غيرَ منجزةٍ، وأكثر من هذا، فإن هذه الأطروحات وأدبياتها تؤكد أن الاندماج الوطني ليس الشرط الضروري لبناء الدولة فحسب، بل هو الشرط اللازم لبناء الديمقراطية. وعلى هذا ينبغي أولا تغيير المجتمع لتصبح بعد هذا مهمة بناء الدولة والديمقراطية مهمة منجزة أو قابلة للإنجاز.
والحاصل أن المجتمع لم يتغيّر، وأن هذه الولاءات الأولية استثيرت بقوة فازدادت صلابة وتجذّرا. نعم، حصل أن تسرّب أفراد من هذه الطائفة أو تلك، وأصبحوا «وطنيين»، أي: أعضاء لا منتمين لهذه الطائفة أو تلك. إلا أن وقوف هؤلاء اللامنتمين وجها لوجه مع الطوائف الأخرى قد جعل منهم جماعة ذات حدود انتماء غير مرنة ولا جامعة. وهذا يعني أن هؤلاء اللامنتمين للطوائف أصبحوا أعضاء منتمين إلى جماعة ذات هوية «وطنية» وايديولوجية (قومية بتفريعاتها أو يسارية بتنويعاتها). أما النتيجة الأكثر فداحة في كل هذا فهي أن جماعة الوطنيين فقدت كثيرا من مخزونها الثمين بما يمثل قوة تقريب وتلطيف من حدة الانقسامات بين الجماعات المتنافسة؛ لأنها - ببساطة - أصبحت جماعة متنافسة ومنخرطة في الصراع مع بقية الجماعات لتحقيق مكاسبها «المشروعة». ويبدو أن هذا مصير ينتظر كل المحاولات الوطنية التي تنطلق من الإيمان بضرورة المجابهة واستئصال الانتماءات الأولية داخل الدولة، وذلك بدلا من التصالح والتوافق مع هذه الانتماءات، والعمل من الداخل وبقدر المستطاع لمعالجة الشرور والإفرازات السلبية التي يفرزها هذا النوع من الانتماءات من قبيل التعصب المفضي إلى التنازع والصراع الجماعي داخل الدولة، أو على الدولة وعلى خيراتها وعلى منافعها العامة.
وللحديث صلة في الأسبوع المقبل.
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1677 - الإثنين 09 أبريل 2007م الموافق 21 ربيع الاول 1428هـ