تشير استطلاعات الرأي في فرنسا إلى احتمال فوز المترشح نيكولا ساركوزي بانتخابات الرئاسة. وفي حال تأكد هذا الاحتمال في الأسابيع الأربعة المقبلة فيمكن القول منذ الآن أن فرنسا مقبلة على متغيرات مهمة في سياساتها الداخلية والأوروبية والدولية و»الشرق الأوسطية». المتغيرات لن تظهر فجأة وإنما ستأخذ مداها الزمني (نحو مئة يوم) حتى يستكمل الرئيس المنتخب استدارته بالمؤسسات ونقلها بهدوء من موقع إلى آخر. فالدول التي تعتمد المؤسسات الثابتة في تحديد سياساتها تلجأ دائما إلى لعبة الاستقرار حتى لا تتعرض المصالح الكبرى للأضرار. ولكن المؤسسات تتأثر دائما بمزاج الرئيس وأيديولوجيته ورؤيته للمتغيرات. وساركوزي في هذا الإطار يختلف في توجهاته ومزاجياته ورؤيته الأيديولوجية عن الرئيس الحالي جاك شيراك.
مدرسة ساركوزي تميل إلى تبني طروحات اليمين المحافظ وهي ليست وسطية التفكير كما هو حال شيراك. وهذا الاختلاف المنهجي ليس بسيطا لأنه سيترك تأثيراته السلبية على مجموعة قضايا مركزية اعتمدها الرئيس الحالي خلال فترة حكمه. ساركوزي مثلا أكثر تشددا من شيراك في موضوع المهاجرين على رغم أنه من مواليد أسرة مهاجرة وليس فرنسيا بالكامل. والموقف السلبي من المهاجرين يستهدف في الطليعة الأقليات المسلمة (المغاربية تحديدا) وموقعها ودورها ووظائفها.
مشكلة المهاجرين شكلت في السنوات الماضية نقاط توتر أمنية وثقافية واجتماعية وكشفت عن ضعف بنيوي في علاقات الدولة مع المجموعات المهاجرة قديما وحديثا. فهناك مسألة الحجاب والسلوك اليومي والعلاقة المتوترة التي ظهرت في صور عنف مختلفة في ضواحي العاصمة وبعض المدن الكبرى. وهناك مسألة المدارس الرسمية وشروطها العلمانية وتمييزها بين الطالب المسلم وغيره من مجموعات مهاجرة. وهناك مسألة الوظائف وحرمان «الأجنبي» أو «المتجنس» من الحصول على ضمانات اجتماعية وصحية متوازنة تتناسب مع ظروفه الصعبة في الحصول على العمل.
نقاط التوتر هذه على هامش العلاقة بين المجتمع والمهاجر والدولة أسست في العقدين الماضيين خطوط تماس أهلية بين مواطن من الدرجة الأولى وآخر من الدرجة الثانية. ومثل هذا التمييز العنصري بين الناس في بلد واحد يعني أن الدولة لم تتطور بعد إلى مستوى يؤهلها للسيطرة على مشكلات طارئة. وهذا الفشل ساهم في تشكيل أيديولوجية عنصرية معاصرة تتغطى بالاختلاف الديني والثقافي والاجتماعي والمسلكي للتعبير عن أزمة داخلية عجزت الدولة في معالجتها.
ساركوزي استغل نمو هذه الأيديولوجية العنصرية المعاصرة وقام بتوظيفها حين شغل منصب وزير الداخلية في عهد شيراك وبنى عليها سمعة أعطته شعبية لدى الناخب الفرنسي.
لم تقتصر انتهازية ساركوزي على الجانب الداخلي وإنما عمم موقفه المقارب لتيار «المحافظين الجدد» في الولايات المتحدة على مختلف القضايا الأوروبية والدولية و»الشرق أوسطية». فالعنصري في فرنسا عنصري في النهاية في كل مكان. فهذا الرئيس المتوقع أقرب إلى جورج بوش وسياسته الدولية من شيراك. فهو ضد المهاجرين في أوروبا ويميل إلى الانغلاق وانكفاء القارة إلى الداخل ، الأمر الذي يعطي فرصة أكبر لواشنطن أن تلعب دورها بحرية ومن دون رقابة أو منافسة أوروبية. وبطبيعة الحال من يكره العرب والأقليات المسلمة (المغاربة) والمهاجرين في فرنسا وأوروبا لن يكون من المعجبين بهم خارج فرنسا وأوروبا. لذلك يتوقع أن ينتهج سياسة الانغلاق أو الانكفاء عن التعامل بموضوعية مع قضايا العرب والمسلمين على مختلف المستويات. وهذا أيضا يعطي أفضلية لواشنطن لإدارة سياستها من دون مناكفة أو إزعاج أوروبي من الطرف الفرنسي.
هناك إذا متغيرات يجب توقعها ليس في الاستراتيجية الثابتة لفرنسا أو الاتحاد الأوروبي وإنما في الديناميات السياسية التي يتحرك الرئيس من أجلها. فالرئيس لا يغير في الاستراتيجيات المستقرة على حماية المصالح العليا، ولكنه يؤثر في تحريك الملفات وتفضيل هذا على ذاك. وساركوزي في هذا السياق يملك برنامج أولويات يختلف إلى حد نسبي وكبير عن شيراك. ومثل هذا السلوك يريح واشنطن أيضا ويسهل الكثير من أمورها في أوروبا و»الشرق الأوسط».
مفارقة وسياسات
إلا أن هناك مفارقة قد تخفف من مدى تأثير تغيير الديناميات الرئاسية. والمفارقة هي أن ساركوزي صاعد بتياره المتخلف سياسيا إلى قصر الأليزيه في وقت تشهد واشنطن مرحلة هبوط تيار «المحافظين الجدد» في الولايات المتحدة، واحتمال مغادرته البيت الأبيض مسألة وقت. وبين دخول ساركوزي مبنى الرئاسة في باريس وخروج بوش من البيت الأبيض حقبة زمنية لا تتعدى السنتين. ولكن السنتين في عالم عربي و»شرق أوسطي» تعصف به الأزمات فترة طويلة في حال قرر ساركوزي انتهاج سياسة التبعية للإدارة الأميركية كما هو حال رئيس الحكومة البريطاني طوني بلير.
شيراك يعتمد مجموعة ثوابت في سياسته الخارجية. فهو ليس ضد الولايات المتحدة وليس معها، ولذلك يتفق ويختلف معها دائما في الكثير من الملفات الدولية وخصوصا حين يتعلق الأمر باستقلال أوروبا وسيادة فرنسا ومصالحها المتشعبة الممتدة إلى روسيا والصين والعالم الإسلامي وإفريقيا. وبسبب حرص شيراك على التمايز ظهرت تشققات في التحالفات الأميركية - الأوروبية وتباينت المواقف في مجموعة ملفات وخصوصا إيران والعراق وفلسطين ولبنان. في الملف الإيراني تتوافق باريس مع واشنطن على موضوع وقف التخصيب النووي وتختلف معها على مسألة استخدام القوة لإنهاء تداعياته. في الملف العراقي شكلت فرنسا قوة رافضة قادت «دولة الضد» في مواجهات سياسية ودبلوماسية ضد الحرب. في الملف الفلسطيني كانت فرنسا، وخصوصا في فترة رئاسة ياسرعرفات، الطرف الأوروبي الأكثر انفتاحا وتعاطفا مع الشعب المحاصر والمظلوم من دون أن يتخلى شيراك عن السياسة الأوروبية (والفرنسية) التقليدية التي تعتمد فكرة حماية أمن «إسرائيل» وضمان مصالحها. الرئيس شيراك في الموضوع الفلسطيني لم يبالغ في تعاطفه السياسي، ولكنه أظهر دائما تلك الشجاعة في نقد «إسرائيل» وتصلبها وعدم تجاوبها مع الاتفاقات والقرارات الدولية. كذلك لم يبالغ شيراك في تعاطفه مع إيران ولم يفرط بالمصالح الاستراتيجية لفرنسا في موضوع العراق. إلا أن توازن شيراك في الملفات الثلاثة وجه رسالة سياسية قوية لإدارة بوش أوقفت مرارا اندفاع تيار «المحافظين الجدد» وعطلت عليه، حرية التحرك والذهاب بعيدا في المغامرات العسكرية. وشكلت هذه الرسائل الشيراكية إشارات تنبيه لواشنطن دفعت قادة تيار المحافظين إلى توجيه السباب والشتائم ودعوة الناس إلى مقاطعة المنتوجات الفرنسية بذريعة أن هذه الدولة تمثل أوروبا «العجوز» و»القديمة».
إلا أن اللافت في المواقف الشيراكية تجاه الملفات الساخنة في «الشرق الأوسط» كان التزامه المبدئي بالموضوع اللبناني. فهذه الساحة شكلت نقاط توتر بين فرنسا وأميركا، وفرنسا و»إسرائيل»، وفرنسا وسورية، فضلا عن موقعه الخاص في الانقسام اللبناني الداخلي. وساهمت مواقف شيراك في تشكيل نوع من التوازن الدولي/ الإقليمي أنتجت مع السنوات خصومات وصداقات انتهت في معظمها إلى صدامات سياسية ودموية. اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري شكل مثلا ضربة موجعة لشيراك شخصيا ولدور فرنسا ومصالحها في لبنان والمنطقة. كذلك جاءت الاغتيالات الناجحة والفاشلة من مروان حمادة وسمير قصير والياس المر ومي شدياق وجبران تويني وبيار أمين الجميل وحتى جورج حاوي لتشكل في مجموعها العام سلسلة ضربات استهدفت النفوذ الثقافي الفرنسي في لبنان وما يعنيه من تعاطف سياسي مع أوروبا لا يرضي أميركا وطموحاتها في المنطقة.
وبسبب التعاطف الشيراكي الشخصي مع «النموذج» اللبناني تشكلت سلسلة حمايات دولية دبلوماسية وسياسية واقتصادية ومالية (باريس 1، و2 و3) أعطت ضمانات مؤقتة للكيان وحصنته من الاختراقات أوالانهيارأوالمساومة على سيادته إقليميا. هذا التعاطف يرجّح أن يخسره لبنان جزئيا أو على الأقل لن يكون على رأس أولويات ساركوزي المعروف بميوله نحو «المحافظين الجدد» والتزامه الشخصي بتوجهات «إسرائيل» وتفضيلها على بلاد الأرز. فشيراك لا يساوم على الملف اللبناني بينما ساركوزي لا يملك الدوافع الشخصية التي تمنعه من ذلك.
في الخلاصة العامة سيكون لبنان هو الأسرع تضررا من الملفات الساخنة الأخرى وبعده تأتي فلسطين. فالرئيس المتوقع انتخابه سيعمل على تحسين العلاقة مع أميركا و»إسرائيل» أوروبيا وإقليميا، كذلك سيعمد إلى «تصحيح» النهج الشيراكي في العلاقات الأميركية - السورية وربما الأميركية - الإسرائيلية في لبنان، الأمر الذي يرجّح إعادة إنتاج تسوية لبنانية ترضي دمشق ولا تضر بأمن «إسرائيل».
هناك احتمالات كثيرة يمكن توقعها بعد مغادرة شيراك قصر الأليزيه. فساركوزي يحمل في جعبته مجموعة من المتغيرات لن تقلب الثوابت الاستراتيجية، ولكنها ستولد ديناميات تعطي أولوية لملفات على حساب ملفات أخرى.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1676 - الأحد 08 أبريل 2007م الموافق 20 ربيع الاول 1428هـ