يحيل هذا العنوان بصورة مباشرة إلى عنوان كتاب عبدالهادي خلف: «بناء الدولة في البحرين: المهمة غير المنجزة». وتقوم الإحالة على محاكاة واضحة في صوغ الشق الثاني من العنوان. إلا أن الإحالة تنطوي على افتراق مهم يظهر في الشق الأول من العنوان: «بناء الدولة/ التكيّف مع الدولة». فبحسب أطروحة عبدالهادي خلف، التي تصدّرت العنوان، فإن «بناء الدولة» مهمة غير منجزة في تاريخ البحرين، وإذا كانت مهمة «بناء الدولة» غير منجزة فمن العبثي الحديث عن محاولات فاشلة أو ناجحة للتكيّف مع الدولة؛ لأن هذه الدولة أساساً لم تبنَ فكيف نفترض التكيّف مع موضوع غير موجود أساساً؟ في حين أن ما أذهب إليه هنا هو أن المهمة غير المنجزة في البحرين ليست «بناء الدولة»، بل «التكيّف مع الدولة»؛ لأني أتصور أن «بناء الدولة» مهمة أنجزت، وجرى الشروع الأولي في إنجازها منذ عشرينات القرن العشرين، ولكن الذي لم يُنجز في تاريخ البحرين هو «التكيّف مع الدولة»، وأقصد الدولة بوصفها حالةً تقوم على ترسيم واضح لحدود «المجال العام»، وعلى تأسيس أجهزة ومؤسسات وتنظيمات حيادية تقوم بحماية هذا «المجال العام» والإشراف عليه وضمان حسن توزيعه بين مواطنين لا تمييز بينهم على أساس الانتماء العرقي أو الديني أو الطائفي أو الايديولوجي أو الجنسي.
لم يكن عبدالهادي خلف غافلاً عن هذا المفهوم العام للدولة وهو من أوائل من تحدثوا عن «المواطنة الدستورية»، ثم إنه يميّز في كتابه بين «الدولة كمؤسسة معقدة تشمل أيضاً الحكومة ووكالاتها وقوانينها وتنظيماتها، وبين نظام الحكم بما فيه أنماط استخدام تنظيمات الدولة الرسمية وغير الرسمية بما في ذلك أجهزتها وقوانينها وعلاقاتها» (بناء الدولة في البحرين: المهمة غير المنجزة، ص 14). إلا أن الخلط - الذي تأسس عليه الكتاب - هو الخلط بين «الدولة» بالمعنى الذي نطرحه هنا والمعنى «المعقد» الذي يشير إليه خلف نفسه من جهة، وبين جملة مفاهيم من قبيل «نظام الحكم الديموقراطي»، و «الوطن»، و «الهوية الوطنية» و «الأمة» و «الشعب» و «المجتمع» من جهة ثانية. وعلامة هذا الخلط أن الكتاب لا يتحدث عن مهمة واحدة غير منجزة كما يوهم عنوان الكتاب، بل هناك - في الحقيقة - جملة من «المهمات غير المنجزة». فمرة تكون المهمة المتعثرة وغير المنجزة هي «بناء الدولة» (ص 15)، ومرة ثانية تتمثل في إخفاق الدولة في «خلق شعب من خلال بناء جماعة متخيلة» (ص 12)، أو «إبدال هويات إثنية متنافسة بهوية وطنية» (ص 16)، ومرة ثالثة أخرى تكون المهمة غير المنجزة هي «بناء المواطنة الدستورية التي تشكّل الموحد الأساسي لمصالح إثنية ووطنية وطبقية متنوعة» (ص 16). ومرة رابعة تكون المهمة المتعثرة هي «بناء الوطنية البحرينية» (ص 17)، ومرة خامسة تكون «بناء الوطن» (ص 50) و «بناء المجتمع» (ص 24).
وهكذا تتداخل كل هذه المهمات غير المنجزة، وذلك بطريقة توحي بأن التماهي حاصل بين «الدولة» و «الوطن» و «المواطنة» و «الوطنية» و «الهوية الوطنية» و «المجتمع»، أو هي على الأقل مفاهيم متلازمة بصورة ضرورية ولا تقبل الانفكاك. وأتصور أن الخلط بين هذه المقولات يتسبب بتشويش المقاربة.
وعبدالهادي خلف في هذه المسألة يعبّر عن موقفين متعارضين، فمرة هو يميز بين «بناء الدولة» و «خلق الشعب»، على أساس أنهما عمليتان متمايزتان، إلا أنهما متلازمتان بحيث يكون الإخفاق في المهمة الثانية ناتجاً من الإخفاق في إنجاز المهمة الأولى. وهو يتحدث عن هذا التلازم بصورة توحي بأنه تلازم حتمي لا محالة وكأن بناء الدولة ينبغي أن يقود - في نهاية المطاف - إلى «خلق شعب» وأمة متجانسة و «هوية وطنية» موحدة، وعلى هذا يصبح الإخفاق في مهمة «خلق الشعب» علامةً على أن «بناء الدولة» مهمة متعثرة وغير منجزة. ويقول في هذا: «إن إصلاحات العام 1923 قد وضعت البلاد على طريق مهمة، إلا أن المهمة التاريخية المزدوجة لم تنجز بعد»، وهو يقصد «عملية بناء الوطن والدولة وتحويل سكان البلاد من رعايا ليصبحوا شعباً» (ص 28). والحق أن في هذه العبارة الأخيرة مغالطة، وهي تكمن في وضع «الشعب» مقابل «الرعايا»، في حين كان الأَولَى أن تكون العبارة بهذا الصوغ: «وتحويل سكان البلاد من رعايا إلى مواطنين». لأن كلمة «الشعب» لا تقابل «الرعايا»، ولا هي علامة على مرحلة لاحقة متقدمة على وضع السكان وهم «رعايا». فالرعايا قد يمثلون شعباً وأمةً موحدين، في حين أن تحول «الرعايا» إلى مواطنين يعني وضع العلاقة بين الدولة والسكان في إطار قانوني تعاقدي، وهذا التحول هو علامة النجاح في بناء الدولة. إلا أن مقصود عبدالهادي خلف هو «الشعب» بما يمثله من أمة متجانسة بحيث تذوب الفروق الطائفية والعرقية والدينية ليندمج جميع «الرعايا» في «هوية وطنية» موحدة. وهو يرى أن هذا «الانصهار ضروري لتحوّل شراذم الرعية إلى أمة موحدة» (ص 107).
وهنا يتضح أن النموذج الذي يقصده خلف من الدولة هو نموذج «الدولة - الأمة»، وأن الإخفاق في إنجاز مهمة بناء الدولة يعني الإخفاق في بناء دولة على نموذج «الدولة - الأمة». ولكن إذا كان هذا النموذج صالحاً للتطبيق على المجتمعات المتجانسة - التي كانت تمثل «أمة» موحدة قبل قيام الدولة الحديثة - فإنه لا يصلح للتطبيق على مجتمعات غير متجانسة وذات تعددية ثقافية. بل ربما قاد السعي إلى تطبيقه بالقوة، إلى صراعات جماعية تكون هي العقبة أمام بناء نموذج بديل للدولة - الأمة، وهي الدولة الدستورية التي لا تشترط وجود «شعب» متجانس بالضرورة، بل تشترط وجود مواطنين يتمتعون بحقوقهم الدستورية من دون تمييز. وفي هذا النوع من المجتمعات ذات التعددية الثقافية يصبح الإصرار على «خلق شعب» وأمة متجانسة إصراراً على اصطفاء «ثقافة رسمية» لتصبح هي «ثقافة الشعب»، وذلك على حساب الثقافات الأخرى التي تتعرض للتمييز والنبذ والتذويب والصهر والدمج؛ ما يعني تجدد دورة الصراع الجماعي.
والحق أن عبدالهادي خلف أشار إلى هذه الحقيقة في الفِقرة الأخيرة من مقدمة كتابه حين كتب: «قد تكون المهمة غير المنجزة قابلةً للإنجاز متى ما تمّ إدراك أن المطلوب هو بناء مؤسسات وطنية يعترف بشرعيتها المواطنون، وليس الاستمرار في حلم، مشروع بلا شك، في تأسيس هوية وطنية تقف أمامها الكثير من العقبات» (ص 17). إلا أن كتاب خلف لا يولي الأمل في إنجاز المهمة غير المنجزة تلك الأهمية التي أولاها ل? «الحلم المشروع في تأسيس هوية وطنية»؛ بدليل أنه يتحدث عن «الانصهار» و «الاندماج» (ص 62، وص 107) و «قوة الصهر الوطني» (ص 76). وأكثر من هذا، إنه يصوّر تاريخ التجاذب السياسي في البحريني على أنه صراع بين الإثنية والوطنية. في حين أن تقديم تاريخ التجاذب على هذه الصورة يعني أن التجاذب السياسي في حقيقته لم يكن أكثر من تجاذب ثقافي يجري في دائرة سياسات الهوية والصراع بين الهويات: الإثنية والوطنية.
وهنا لا يسعنا تجنب هذا السؤال: هل كان التحمس لنموذج «الدولة - الأمة» نابعاً من الحرص على تأمين صيغة سياسية تمنع التمييز بين الناس على أساس انتماءاتهم المختلفة؟ وهل كان هؤلاء المتحمسون يظنون أن تجانس الشعب في انتماء وطني موحد سيعطّل سياسات التمييز بين المواطنين لأنه لن يكون هناك تمايز في الانتماء ليكون هناك تمييز على أساس الانتماء؟ لو صح الاستنتاج الذي تنطوي عليه هذه الأسئلة فإن تحمس هؤلاء سيكون نبيلاً إلا أنه ساذج في الوقت ذاته؛ لأنه من قال: إن تجانس الأمة يعني تعطيل غريزة الظلم والاستبداد والعدوانية والشر الموجود في كل نظام سياسي؟ أليس هناك ظلم واستبداد وابتلاع للدولة في معظم دول العالم الثالث التي تتمتع بوجود شعب وأمة متجانسة؟ ثم من قال بإمكان وجود أمة متجانسة أصلاً، بحيث تخلو هذه الأمة المتجانسة من كل أشكال الفروق والاختلافات؟ والأهم من كل هذا هو أن الدول الرديئة تستطيع خلق أو تنشيط اختلافات «نائمة» في قلب هذه «الأمة المتجانسة»، وهو ما يسمح لها بتسريب طاقة الظلم والتمييز في مسام هذه الاختلافات التي جرى خلقها أو تنشيطها.
وعلى هذا، إن الذي يعطل غريزة الظلم والتمييز ليس هو خلق شعب متجانس، بل هو خلق «دولة دستورية»، أي: دولة تتوافق على «دستور ديموقراطي» يصبح هو الحاكم على «المجال العام»، وتصبح مؤسساته هي المسئولة عن الحفاظ على هذا المجال والإشراف على عدالة توزيعه بين المواطنين. هذه الدولة هي المهمة التي شرعت في إنجازها إصلاحات العام 1923، وهي التي ينبغي السعي إلى إكمال إنجازها اليوم. وأتصور أن إنجاز الدستور وتحصيل التوافق الوطني عليه، وبناء مؤسسات دستورية قوية ونزيهة، كل هذا يمثل متطلبات أساسية لإنجاز هذه المهمة التاريخية. إلا أن إنجاز هذه المهمة يتطلب «التكيّف مع الدولة»، والتكيّف يعني أن تسعى كل الجماعات والقوى إلى تغيير ما بأنفسها؛ ليكون الجميع في وضعية تسمح له بالتلاؤم مع هذه «الدولة الدستورية» نفسياً حتى مزاجياً.
وعن هذه المسألة المتشعبة، ستدور سلسلة مقالاتنا القادمة، وهي تتطلب صبراً من القراء الأعزاء؛ لأنها قد تمتد على أكثر من شهرين، وهي تتطلب رحابة صدر من قِبل كل القوى والجماعات؛ لأنها ستدور حول قضايا وتواريخ ذات حساسية متبادلة. ولكن إذا كان التاريخ يصنعه البشر، ويكتبه البشر - المنتصرون أو المنهزمون إذ لكل تاريخه الخاص - فإن من حق البشر كذلك أن يعيدوا كتابته وقراءته والحفر فيه وتقليب مكوناته مراتٍ ومراتٍ. وهذا الحق هو الذي يؤمّن لقراءتنا هنا مشروعيتها المبدئية.?
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1670 - الإثنين 02 أبريل 2007م الموافق 14 ربيع الاول 1428هـ