ما جرى في مجلس النواب من تشكيل لجنة تحقيق (قيل) إنها معنية بالفعالية الإبداعية (مجنون ليلى) التي افتتح بها مهرجان ربيع الثقافة، أمر لا يثير الاستهجان فحسب بل ويعكس تشوشا وخلطا لدى نواب الشعب في غير جانب. تشوش في فهم النص الدستوري الذي يكفل حرية التفكير والإبداع الثقافي والفني، وخلط في طبيعة المهام المنوط بها نائب الشعب، وبعد شاسع عن فهم طبيعة وشروط الإبداع الإنساني في شتى تجلياته الأدبية والفنية والفكرية.
نقول (قيل) حول مهمة لجنة التحقيق كونها مهمة يكتنفها الغموض ويجافيها منطق التبرير؟
هل سيطول التحقيق الجهة الرسمية المعنية بربيع الثقافة ممثلة في كبار مسئوليها؟
وما المستمسكات التي يمكن أن تدين هؤلاء؟
هل وقف النواب على فساد إداري أدى لقصور في الإعداد والتنفيذ لا يتساوق والقمم الإبداعية التي شاركت في الفعالية؟
أم رأوا تبذيرا في المال العام الذي صرف عليها؟
واقع الحال يشي بعكس ذلك، فقد شهد الجمهور البحريني الذي تقاطر على الصالة الثقافية واكتظ به المكان ليلتين متتاليتين على روعة التنظيم والإعداد المسبق للفعالية وتنفيذها المتقن على المسرح.
أما من حيث المخصص المالي لربيع الثقافة برمته فها هي الشيخة مي الخليفة الوكيل المساعد لقطاع الثقافة والتراث الوطني بوزارة الإعلام تمنح الجميع درسا ثمينا في كيفية تحريك القطاع الخاص ليسهم بدوره المفترض في رفد الثقافة والارتقاء بمكانتها في المجتمع.
أما إن اعتبر نوابنا الأفاضل أن مسئولي الوزارة كان يفترض - مسبقا - أن يشاهدوا عرض (مجنون ليلى)، أو يبحثوا في نص قاسم حداد وموسيقى مارسيل خليفة ومشاهد العرض المرافق، فهنا عمق المأساة.
ليس من صلاحيات السلطة التشريعية أن توجه الأجهزة التنفيذية لمساءلة الإبداع ومحاكمة المبدعين. ذلك فهم قاصر لطبيعة وشروط الإبداع من جهة وللمهام النيابية من جهة أخرى.
النائب انتخبه الناس لينوب عنهم في سلطة اتخاذ القرار وفي التشريع والرقابة لا أن ينوب عنهم في التفكير والقناعات والاهتمامات الحياتية والميول الإنسانية.
إن أثمن ما يملكه الإنسان هو حرية تفكيره وخياله وإبداعه، وما ينويه نواب الشعب تجريد الناس من حرية أفكارهم وخيالهم. وما ينوونه خنق لحرية الإبداع وانتزاع له من هوائه ومائه، فالإبداع سمكة لا تحيا إلا في ماء الحرية. وليس أبشع من أن يُحرم إنسان من حرية الإبداع.
فرض القيود والشروط على الإبداع يتنافى مع طبيعته وخاصيته، فالإبداع لا يتحقق إلا بالتحرر من السائد والمحرم والمحنط، ولا يتوهج إلا في كنف ما يكتشفه من مفردات جديدة للحياة تمنحها أبعادا أكثر جمالا وتمد الوجود والوجدان الإنساني بمعان أكثر بهاء، يدركها البشر بفطرتهم وحسهم النقي ويتذوقون رحيقها.
الإبداع يتجاوز السائد شاخصا نحو مفاهيم وقيم أكثر عمقا وأصالة. وبتمرده وتفتحه وإضافاته الأصيلة يشحذ الإبداع مجتمعا نقي الوجدان والضمير مجددا لذاته مراكما خبراته الإنسانية مُغنيا تجاربه مسهما في إرساء حضارة أكثر عراقة وتاريخ أكثر إضاءة. المبدعون بكل تلك المعاني طلائع رائدة للتقدم الاجتماعي والحضاري.
والمبدع ينتمي لفضاء قِوامه الحرية والاختلاف والتمرد، وله أن يمنح البشرية ما يشاء من الجمال والسمو، وبعدها ليتسع إبداعه لشتى التفسيرات ويغدو بابا مشرعا ترتاده شتى الرؤى النقدية. لكنه يكف عن أن يكون إبداعا متى ما تربص به القمع والقهر وأخضعه للضبط والتقنين.
لذلك فالإبداع لا يُساءل ويُحاكم بمعايير الدين والأعراف والأخلاق والقيم السائدة. معايير الأخلاق في الإبداع الفني - على سبيل المثال - غير معايير الأخلاق في العرف والمسلك الإنساني ومن الخطأ مساءلة الإبداع بمعايير الأخلاق السلوكية. كذلك من الخطأ والظلم أن ُيحكم على الإبداع بمعايير من خارج فضائه. ومن الخطأ انتزاع أجزاء من عمل فني ذي وحدة متكاملة ومدلول عام ومساءلته من مساءلة تلك الأجزاء.
الإبداع مَلَكة فطرية يُجبل عليها الإنسان وله تنميتها وتعزيزها بالتعلم والتجريب والتخصص. ومثلما أن الإبداع ملكةٌ ُخص بها نفر من المجموع، فليس من الوارد أن يتصدى لتقييم الإبداع أو مساءلته نفر لا يملك أدواته أو من غير المتخصصين في مجالاته.
واقعنا الثقافي والإبداعي مهدد الآن وبالفعل، فما جرى قابل للتكرار تجاه أي مشروع إبداعي قادم. ستكون كافة أشكال الإبداع عرضة للملاحقة والمساءلة وربما الوأد تحت طائلة اتهامات الدعوة للغواية أو إثارة الغرائز أو المَس بثوابت الدين أو الخروج على الشريعة والأخلاق، وسيقود ذلك للتراجع عن المنجز الحضاري لهذا المجتمع.
هذا هو وقت المتنورين لرفع أصواتهم برفض الوصاية على فكر الإنسان وروحه وإبداعه في مجتمع متحضر عريق في تمسكه بدينه وقيمه وأخلاقه كالمجتمع البحريني.
هذا هو وقتٌ نجدد فيه صرخة قديمة جديدة أطلقها أفلاطون منذ آلاف السنين تنادي بحرية الإبداع.
إقرأ أيضا لـ "فوزية مطر"العدد 1667 - الجمعة 30 مارس 2007م الموافق 11 ربيع الاول 1428هـ