افتتحت أمس وتختتم اليوم القمة العربية في الرياض بعد استعراض الكثير من الملفات الساخنة والباردة في المنطقة ومحيطها. لم تقتصر القراءة العربية على الاستعراض وإنما كانت هناك مساجلات حددت المسارالعام للدول العربية من دون التوافق على خيار استراتيجي يعيد إنتاج تسويات قابلة للتنفيذ في المديين القريب والبعيد. فالمشكلة ليست في المقاربة العربية للقضايا المطروحة على جدول الأعمال وإنما في الاتفاق على آليات تضمن للدول العربية ذاك الهامش المطلوب إقليميا ودوليا لتطبيق التصورات ونقلها من سياق تداول الأفكار إلى ميدان التجربة.
الخطاب العربي الرسمي الذي ظهر في جلسات القمة بحضور المندوبين والممثلين من القوى والمنظمات الدولية والأوروبية والآسيوية والإفريقية كان على سوية عالية من التواضع والعقلانية والشفافية. والأفكار والحلول والمخارج التي طرحت تمتعت بالكثير من الواقعية نظرا لتخليها عن سياسة المبالغة أو المكابرة أو تضخيم الذات. فما قيل أخذ في الاعتبار توازن المصالح وقرأ بين السطور حجم المخاطر والعقبات لذلك اجتمعت الكلمات على الحد الأدنى وتعاملت مع الخصوم بتواضع ولم تستخف بقدراته وإمكاناته على الشغب وقلب الطاولة وتخريب الحلول وتعديل التوازنات.
الخطاب العربي الرسمي في الرياض سجل نقطة متقدمة في رؤية التوازنات واجتهد قدر الإمكان في تحليل المشكلات وجدولة الحلول بموضوعية وفي منتهى التواضع. فالخطاب لم يبالغ في التقليل من حجم الكارثة التي أوقعتها الولايات المتحدة في العراق كذلك أدرك أن الخروج من المأساة يتطلب خطة عمل تستدعي مشاركة كل القوى في صنعها ومعالجتها. كذلك لم يقلل الخطاب من خطورة الأزمة اللبنانية وتفرعاتها المذهبية والطائفية وتداعياتها الإقليمية لذلك مال إلى صوغ تصور موضوعي يتعامل مع المشكلة المعقدة والمركبة بهدوء وعقلانية. وفي السياق نفسه تعامل الخطاب العربي الرسمي مع أزمتي السودان والصومال فهو اقترح مجموعة خطوات وحلول تنسجم مع تعقيدات الوضع وتلك الشبكة الممتدة محليا وإقليميا وعربيا وإفريقيا ودوليا. فالأفكار العربية التي طرحت مزجت بين المصالح وربطت الأمن بالسياسة والسياسة بالكوارث الاجتماعية والإنسانية.
حتى الموضوع الفلسطيني الذي يعتبر حلقة مركزية في المشروع العربي اتجه الخطاب الرسمي إلى التعامل معه بموضوعية ومن دون تعال على تعقيدات المسألة والتوازنات القائمة ميدانيا في ساحة الصراع الإقليمي والتجاذب الأهلي الداخلي والاستقطاب الدولي ودور أميركا في تعطيل الحلول والمبادرات السلمية العربية وعناد «إسرائيل» وعدم اعترافها بمعادلات الواقع.
عموما حاول الخطاب العربي الرسمي في قمة الرياض أن يتعامل بواقعية وعقلانية مع الملفات الساخنة والباردة بما فيها موضوع إيران والحشود العسكرية والتوتر الأمني الإقليمي والضغوط المتزايدة بشأن مسألة تخصيب اليورانيوم ومخاطر انتشار الأسلحة النووية في منطقة خطيرة وحساسة استراتيجيا.
كل هذا التواضع يمكن رصده بشفافية من خلال مراجعة الملفات الكثيرة التي طرحت على جدول أعمال قمة الرياض. إلا أن الكلام العربي لايزال يحتاج إلى آليات للتنفيذ وقوة موحدة قادرة على حمله والدفاع عنه في حال اصطدم بعقبات دولية ورفض إسرائيلي ومخالفة أميركية. المشكلة تبدأ من هنا. فالقوى العربية تصطدم دائما بهذا النوع من الاعتراض حين تقرر نقل الأفكار من النظرية إلى الواقع. فدائما كانت القمم العربية تواجه هذه الممانعة الأميركية المتمثلة بالانحياز الكامل لـ «إسرائيل» وموقعها ودورها حتى لو كلف واشنطن الكثير من الأضرار لمصالحها الاستراتيجية في «الشرق الأوسط».
المبادرة العربية بشأن فلسطين والسلام مع «إسرائيل» مثلا تقررت قبل 5 سنوات في بيروت ورد عليها رئيس الحكومة ارييل شارون باجتياح مدن الضفة وإعادة احتلال القطاع بدعم وتشجيع من الرئيس الأميركي جورج بوش. الآن وبعد مرور تلك السنوات لاتزال واشنطن تتفهم وتغطي وتساعد حكومة إيهود أولمرت على رفض المبادرة والتصدّي لها ووضع الشروط عليها والامتناع عن الدخول في مفاوضات «الحل النهائي» قبل تطويع الشعب الفلسطيني وكسر إرادة الممانعة العربية.
المسألة إذا ليست سهلة حتى لو ظهرت في الأفق بوادر ضعف في الكيان الصهيوني أو حالات تضعضع وتردد في حركة الاحتلال الأميركي للعراق. فهذا التخلخل لا يعني أن الولايات المتحدة ستلجأ إلى سياسة الاستسلام أو الامتناع عن الاعتراض أو الإقلاع عن مشروع التحدّي واستفزاز الدول العربية ومحاولة استفرادها واحدة بعد أخرى.
لا شك في أن الموقف العربي الرسمي كما تجلّى في قمة الرياض بات في موقع أفضل من السابق ولكنه لم يتطوّر بعد إلى سوية متقدمة تسمح له بالتصدّي أو المواجهة أو حتى الدفاع عن أفكار وحلول صحيحة ومتواضعة وعقلانية. فالدول العربية تحتاج إلى آليات تفتقدها لتنفيذ برنامجها وانتزاع حقوقها وهي أيضا تتطلب تلك الاستراتيجية المشتركة التي توحّد المصالح والغايات والأهداف ضمن ترتيب متوافق عليه في السياستين القومية أو الإقليمية.
تعريب الأزمات
حاولت قمة الرياض قدر الإمكان تعريب الأزمات تحت سقف الحد الأدنى الإقليمي ومن خلال وضع تصورات معقولة للملفات الساخنة والباردة في المنطقة. لكن مشكلة التعريب تكمن في وجود سياسة تدويل لكل الملفات المطروحة. ومثل هذا الصراع المستعاد بين التعريب والتدويل يحتاج فعلا إلى فترة زمنية لإعادة الحياة له وتنميته من جديد في ضوء التداعيات الدولية التي أخذت تظهر في أفق القضايا الإقليمية الحامية أو في طريقها إلى التسخين.
الولايات المتحدة نجحت في السنوات الست الماضية في استغلال نفوذها الدولي حين أخذت بجرجرة دول مجلس الأمن على إصدار سلسلة قرارات شملت مختلف القضايا العربية والإقليمية التي تداولت قمة الرياض ملفاتها وأوراقها. وأدى هذا الإفراط الأميركي في استخدام مجلس الأمن إلى وضع تصورات دولية لكل المشكلات وبات على الدول العربية التعامل مع هذه المستجدات في وقت تلوح في الأفق بوادر ضعف في التحالف الأميركي - الإسرائيلي ضد مصالح المنطقة.
تدويل القضايا العربية والإقليمية تحول بعد ست سنوات من الهيمنة الأميركية إلى عقبة سياسية تواجه جهود الدول العربية الراغبة بإعادة الملفات إلى دائرة التعريب. في موضوع العراق نجحت واشنطن بعد احتلال بغداد وحرقها ونهبها وتقويض الدولة في انتزاع نص دولي يشَرْعِن الاجتياح ويعطي مجلس الأمن صلاحيات قانونية للتدخل بقيادة الولايات المتحدة. وفي موضوع لبنان نجحت إدارة واشنطن في إصدار سلسلة قرارات وضعت مختلف المشكلات تحت سقف التدويل وبات هذا البلد الصغيرعرضة للضغوط بدءا من نقاط الرئاسة والتجديد وتعديل الدستور وجرائم الاغتيالات وسلاح المقاومة والمحاكمات وانتهاء بنقاط العدوان والاحتلال والحدود والعودة وانتشار الجيش والعلاقة مع سورية. وفي موضوع السودان نجحت إدارة بوش في تأزيم ملف إقليم دارفور وتثوير الرأي العام العالمي حوله وتأليب دول مجلس الأمن للاجتماع بذريعة الدفاع عن مسألة إنسانية وتحويلها إلى مشكلة سياسية تمهيدا لإصدار قرار دولي بشأنها. وفي موضوع إيران تعاملت واشنطن مع الملف النووي بصفته مشكلة دولية تهدد السلام العالمي والأمن الإقليمي ويزعزع الاستقرار في الخليج وصولا إلى دفعه ونقله من الوكالة الدولية إلى مجلس الأمن والتحريض عليه باتجاه إصدار قرارات تحت الفصل السابع مستفيدة من سياسة التخويف التي اتبعتها خلال العام الماضي.
كلّ النقاط التي ناقشتها وتداولتها قمة الرياض العربية أصبحت مدولة. فالملف العراقي مدوّل والملف اللبناني أيضا، والسوداني كذلك، وأخيرا بات الملف الإيراني يتحرّك تحت سقف التدويل. أما الموضوع الفلسطيني فهو لايزال يتعرض منذ أكثر من نصف قرن لذاك النزاع بين التعريب والتدويل. حتى مشروع المبادرة العربية السلمية تعرض لذاك الرفض الأميركي - الإسرائيلي بذريعة «التدويل» الذي يعتمد قرارات دولية تتحايل تل أبيب وتماطل في تنفيذها.
هناك إذا مشكلة مضافة إلى التحرك العربي الذي يعاني أصلا من تعثر ميداني وتفكك سياسي واختلافات في الرؤى الاستراتيجية ووجهات النظر القطرية والكيانية. والمشكلة المضافة تتركز الآن في كيفية تعامل الدول العربية مع ملفات أصبحت مدولة ولم تعد في منظار الأمم المتحدة مجرد قضايا عربية وإقليمية محدودة التأثير في جغرافيتها السياسية.
هذه المشكلة المضافة تتطلب من جامعة الدول العربية البحث عن آليات قادرة على استعادة الملفات من دوائر «التدويل» وإعادتها إلى دائرة «التعريب». ومثل هذه الآليات يصعب تصور نهوضها في ضوء الضعف العربي الذي أعطى سابقا الذريعة للدول الكبرى بالتدخل وانتزاع القضايا العربية من سياقها القومي الإقليمي إلى إطار دولي يصعب تفكيكه من دون تغيير موضعي في المعادلات.
سياسة تدويل القضايا العربية تحولت الآن إلى معضلة قانونية وبات على اللقاءات المقبلة معالجة هذه المشكلة المضافة إلى سلسلة أزمات تهدد بزعزعة استقرار المنطقة من الخليج وإيران إلى لبنان والسودان.
الخطاب العربي الرسمي كان في قمة التواضع والعقلانية والموضوعية في الرياض ولكنه بات الآن وبعد ست سنوات على الهيمنة الأميركية يواجه مشكلة مضافة بسبب دخول ملفات المنطقة في سياق تنازعي بين «التعريب» و «التدويل».
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1665 - الأربعاء 28 مارس 2007م الموافق 09 ربيع الاول 1428هـ