يقول المفكر المصري مصطفى لطفي المنفلوطي (1876 - 1924) «إن الحرية شمس يجب أن تشرق في كل نفس، ومن عاش محروما منها فقد عاش في ظلام حالك».
إن الحرية ليست منحة تمنح، أو علما يكتسب، إنها إحساس عميق كامن في ثنايا الروح، وقابع في دهاليز النفس.
الحرية إحساس سحري لا يعرف معناه إلا من شعر به، وعرف عميق أسراره... وأسرار الحرية مشاعر كامنة في النفس.
إنها شعور خاص... فطري... لا يعادلها أي شعور آخر... شعور يولد مع الإنسان ويكبر معه، ومهما حاول الآخرون نزعه من داخلك فلن يستطيعوا.
توقف عن القراءة الآن... استرخِ...
خذ نفسا عميقا... وأطلقه وأنت رافع رأسك...
هل شعرت بالراحة؟
تخيل لو أنك أخذت نفسا عميقا... وحبس في صدرك... ولم تستطع إطلاقه... كيف ستكون حالتك... جرب... وستعرف معنى الحرية!
قد تكون سجينا في غياهب السجون والمعتقلات في سابع أرض... لكنك تحلق عاليا بحريتك، وتشعر بانفرادك عن الآخرين... وقد تكون أكثر حرية بداخلك من سجانك... وحراسك.
إن الحرية ليست فعلا فرديا أنانيا... أي يجب ألا تستمتع أنت بالحرية بينما يعاني الآخرون من القمع الظلم والاضطهاد... ان حريتك الحقيقية تكمن في قدرتك على الدفاع عن الآخرين، وان تسعى كي يحصلوا على ما تنعم به، فالحرية فعل جماعي يجب أن تكون متاحة للجميع، ويتمتع بها كل الناس دون تحديد او تخصيص.
واجمل مشاعر الحرية هو ان تدافع عمن سلبت حريتهم وتقاتل من اجل ان تعاد اليهم. وقد تعيش في بلد يعج بالقمع والظلم والقهر والكبت والحرمان ومصادرة الحريات، لكنك تعيش حريتك بداخلك، فهي كنزك الدفين الذي لا يستطيعون سلبه منك.
يقول الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا: «الحرية لا يمكن أن تعطى على جرعات، فالمرء إما يكون حرا أو لا يكون حرا».
كم من وزير أو مسئول كبير صاحب سلطة وبهرجة وصولجان... لكنه مقيد بتلك البهرجة، مربوط بحبل السلطة لا يستطيع الفكاك منها... وتراه معدم الحرية.
إن قيد السلطة كبير... فهو أولا يسلبك روحك الخاصة وإرادتك الخاصة، ومشاعرك الخاصة... فتصبح إنسانا آخر مختلفا عما أنت عليه... أو حتى عمن تود أن تكونه!. انه قيد السلطة الذي سلبك حريتك... فتعبر بخلاف عما تقتنع به، وتنادي بعكس ما تؤمن به... كل تلك تضحيات لا يعرف أن يقدمها الأحرار... فتجد الحر الصادق يحاول جاهدا أن يبتعد عن السلطة، وإذا ما ابتلي بها فإنه يركلها بأول فرصة سانحة، متى ما شعر أن بقاءه فيها سيكون على حساب حريته ، وقناعاته، ومعتقداته... وما يؤمن به.
وفي تراثنا... العديد من القصص والأحداث لأحرار رفضوا الانصهار بقيود السلطة... وركلوها بأول فرصة سانحة.
جاسم القطامي... له حادثة شهيرة عندما كان مديرا للأمن في الكويت عام 1956... بعد أزمة السويس، إذ أبدى معارضته لقرار الحكومة بمنع الاضراب ومظاهرات الاحتجاج ضد العدوان على مصر، وطلبت السلطة وقتها من القطامي قمع المظاهرة، لكنه رفض... وبعد أن احتدم الموقف... قدم استقالته... ونزل الى الشارع في صفوف المتظاهرين!
أين هذا الموقف من مواقف الكثيرين من عبدة السلطة ورهبانها؟
وهناك أمثلة كثيرة... لعبدة السلطة... الذين يقضون حياتهم مناضلين... مكافحين... معارضين... وعند أول قطعة لحم ترمى لهم من قبل السلطة... نراهم يلهثون نحوها... ويعضون عليها بالنواجذ... وقد تخلوا عن نضالهم القديم، وكفاحهم القويم، في سبيل الكرسي الوثير... وغيّروا من مبادئهم وقناعاتهم وأفكارهم... ورموا بتاريخهم بعرض الحائط... ودفنوه في سابع أرض.
وعندما تذكرهم بذلك... إما يكابرون ويدعون أنهم ما زالوا على مبادئهم... أو يسخرون منك... ويقول لك احدهم... كنا سذجا! هذا اذا لم يتهمك بعضهم بالحقد والحسد!
ولكن اللاعب غير المتفرج... هذه كلمة نطق بها أحد المناضلين المعارضين القدامى الذي استطاعت السلطة استدراجه وتوزيره... وبعد أن تغيّر كليا خلال اقل من عام من جلوسه على كرسي الوزارة.
صاحبنا قال حين سُئِلَ عن تغيّر مواقفه ومبادئه: «إن اللاعب غير المتفرج»! أي من كان خارج السلطة والحكومة، ويراقب أفعالها وإعمالها، كان متفرجا، يرى عكس الواقع الذي يعيشه اللاعبون ممن هم داخل الحكومة ويمسكون بزمام السلطة.
هي إذا... لعبة... هكذا وصفوها... وبين اللاعب والمتفرج... يكون الشعب هم الكرة التي يلعب بها الطرفان!
انظر في عيني من هم حول من يملك السلطة، سواء سلطة المال أو المنصب أو السلطة المعنوية، مثل السلطة الدينية والتاريخية وغيرها.
انظر في أعينهم جيدا... إنهم أناس تعودوا على ذلك القرب، ومتعة الدفء في محيط الحاكم! إنهم لا يستطيعون العيش بعيدا عنه! حياتهم أصبحت مرتبطة به... أحاسيسهم ومشاعرهم متعلقة بالحاكم، إذا رضي فرحوا وإذا غضب اسودت الدنيا في أوجههم. انظر جيدا... تفحصهم وهم في قربه... انظر في أعينهم وتأمل شفاههم وتعابير وجوههم... ستلحظ بالتأكيد تلك الابتسامة المصطنعة، والرضا المصطنع، والحب المصطنع، والولاء المصطنع!
يقول المفكر المصري عباس محمود العقاد (1889 - 1964): «إن المذهب السياسي او الاجتماعي الذي يسلبنا الحرية، يسلبنا أعز نعمة في الحياة الإنسانية، بل يسلبنا كرامة الإنسان ويستحق منا المقت والازدراء».
هل هناك حكومة أو سلطة تؤمن بالحرية فعلا؟
سؤال صعب... قد يكون فعلا هنالك حكومات تؤمن بالحرية وتسعى لأن تمنحها لشعوبها كاملة... ولكن، اعرق الديمقراطيات، وأكثر الحكومات حرية وانسجاما مع شعوبها... لا تؤمن بالحرية المطلقة الكاملة، ولديها دائما ما تخفيه عن شعوبها. وهذا ما نجده يتفجر بين حين وآخر من فضائح في الدول المتقدمة والمتحضرة (أو التي نظنها كذلك) ما هو إلا عبارة عن معلومات وقضايا وقرارات وإجراءات كانت هذه الحكومات قد اتخذتها وأخفتها عن شعوبها... فيتم كشفها إما بالمصادفة أو من خلال تسريب بعضها عبر الصحافة ووسائل الإعلام لمصلحة أناس آخرين.
بالتأكيد... لا توجد سلطة تريد أن تشرك أطرافا أخرى معها بالقرار... وهو ما يمكن أن أسميه (الديكتاتورية المدمقرطة)، فقد تكون السلطة أو الحكومة مضطرة لان تكون ديمقراطية، أو أن تسلك ذلك الطريق العسير لأي سلطة انت، وخصوصا إذا سعت بعض الدول للتحول من سياسة القرار الفردي للحاكم المطلق، إلى القرار الجماعي عبر القنوات الشرعية والدستورية، فستكون سنوات التحول الأولى عسيرة للغاية.
فالحاكم مضطر أن يشرك شعبه بكل القرارات التي ظل سنوات طويلة ينفرد باتخاذها دون الحاجة إلى مشورة الآخرين. ونادرا... بل نادرا جدا ما نجد حاكما يؤمن بحق الشعب في تقرير المصير، ويؤمن بأحقية الشعوب بأن تكون شريكة في الحكم وفي القرار، عبر المؤسسات الشرعية والدستورية... ويؤمن بحق الشعب بالتعبير عن رأيه وفكره وقناعاته، واتخاذ مواقفه دون خشية أو رهبة... أتحدث عن الإيمان الحقيقي... وليس عن قيام حاكم ما بتطبيق الديمقراطية.
العدد 1665 - الأربعاء 28 مارس 2007م الموافق 09 ربيع الاول 1428هـ