العدد 166 - الثلثاء 18 فبراير 2003م الموافق 16 ذي الحجة 1423هـ

«دمستان» الحزينة تبحث عن ساحل بحرها!

سيد ضياء الموسوي comments [at] alwasatnews.com

عندما تقترب من قرية دمستان تخال نفسك انك تدخل مأتما، المفقود فيه أغلى ما في الطبيعة، وأجمل من محيا امرأة هيفاء، فقد أصبحت الدموع تبلل الذكرى المعطرة برائحة الأجداد، وكأن الناس يقرأون في مأتم الحزن آيات البحر من القرآن، ولكن بنكهة حزنٍ وبدموعٍ سجينة محبوسة الاختناق «الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره». (الجاثية: 12) هنا تجهش الذكرى ويعم القرية النحيب لبحر ما عادوا يرونه إلا في آيات الله.

والكل يسأل: ألم يقرأ الوزير آية البحر إذ قال تعالى: «الله الذي سخر لكم البحر»، إذ قال في ضمير المخاطب «لكم» وهي للجمع، فحتى القرآن أعلنها قبل 1400 سنة أن البحر ملك مشاع لا يمكن أن يوزع هنا أو هناك، والمشكلة أو الذبحة القلبية التي يتعرض لها الساحل الغربي لكل القرى هي ذلك الشريان الصغير المهدد بالقطع من جهة منطقة المالكية الذي هو الآخر بدأ يشاطر قرينه المصير نفسه تماما كالدمستان. فكلتا القريتين تعاني المصير ذاته والناس تخنق دمعها كل يوم من أعالي السطوح وهي تحاول أن تبعث بعض التحيات الدامعة على «أبو الخير» و«أبوالجميع» البحر الغربي.

لقد كان قانون أمن الدولة هو أول المتورطين في كبح أصوات الناس عن الارتفاع والدفاع عن البحر، أما وقد فتحت الحرية عينا لها فلا محيص من عودة البحر واستفادة الجميع منه.

فالناس خسرت البحر وخسرت منه ذلك اللحم الطري وتلك الحلى التي كان الغواصون من أجدادنا يستخرجونها ليلبسوها البحرين وكل أهلها.

بالأمس في مدارسنا نكرر في ضمن نشيدنا الوطني «أم المليون نخلة عرفتوها عرفناها...» أما الآن فأم المليون نخلة ما عاد بها نخلة ولا بحر، وما عاد الناس يرون تلك الأمواج الفضية ولا تلك الرمال الذهبية التي كانت تداعب تلك السواحل الجميلة سوى بعض من رجال الأعمال أو تجار أخذت بهم الأنانية والجشع المادي لأن يحرموا الناس حتى مما سخره الله للجميع وهو البحر.

إنه عبث بالبيئة البحرينية وشطب لتاريخ طويل من ذكريات الغوص والأجداد والطفولة. فعمليات الردم العشوائي البرجوازي مازالت تحثو التراب على قلب البحر، تريد ذبحه بالسكتة القلبية لتقيم عليها مشروعات التجارة وتوزيع وبيع حصص المرابين من أصحاب الأعمال.

فهذه الحياة البحرية أصبحت في طريقها للموت أو الاعتقال الفردي، وبدأت إضافة إلى كل هذا الردم والسطو بدأ الزحف على البقية الباقية من ساحل دمستان عملية بتر أبكت جميع القرية، فكثير من الصيادين أصبحوا يتعثرون ويكادون أن يسقطوا في الوحل بعد أن ألغيت كل مسافات البحر وتشطبت طرقه، فكأنما البحر يغرق وهم يغرقون في «تايتنك» أخرى من «تايتنكات» القرن الواحد والعشرين.

وللأسف، لا يوجد للبحر أية تشريعات قانونية تحفظه وتؤمن وجوده، وأصبحت عملية اقتطاع البحر وبيعه في المزاد العلني في ظل اقتصادنا الرأسمالي القائم على الربح والثراء السريع أسهل بكثير من حركة هدب في ظل رياح وغبار.

مؤسساتنا المدنية نائمة، اللهم إلا ما نذر وجمعياتنا السياسية دخلت مخدع الهموم والسياسة ولم تخرج منه في حين هي بحاجة إلى إضافة إلى أولوية السياسة الترافع عن بقية الملفات المعيشية وما أكثرها.

فليس هنالك تضاد بين ان تترافع عن دستور 73 وان ترفع الصوت عاليا - وهي أهل لذلك - عن قضايا البطالة والفقر والمحسوبية في الوظائف وعن البحار المبتورة وعن المعلمات اللاتي يراد الغاء شهادتهن في صفقات مريبة وعن السرقات الفاضحة من سرقة بنك البحريني السعودي الذي أصبح يعاني من ذبحة مالية بعد السطو على 17 مليون نبضة مالية من القلب وإلى الفضيحة الأخرى التي انتهت باستقالة بدلا من أن تنتهي بمحاكمة علنية في وزارة الأشغال والإسكان، إذ قضت العقوبة بدلا من الأشغال الشاقة والحجر على المال فقط الغاء - كما هو ظاهر راتب التقاعد... واعتقد أن ذلك أكبر محفز للسرقة، فلو ان كل متنفذ يسرق الملايين سيكون العقاب إلغاء الراتب التقاعدي فإن أكثر الناس سيلجأون إلى السرقة.

للأسف، سراق المال العام في المجتمعات العربية فضلا عن الدولة عندما يتم اكتشافهم في أضعف الأمور يتم اخفاؤهم أو مواراتهم، أما نحن فإننا قد نرى لهم وجودا في الصحافة حتى بعد الفضيحة وهذا ينظر لك بمقال وذاك بعمود «وتيتي تيتي رحتي مثل ما جيتي».

اليوم في قرية دمستان بقي الناس يعيشون في غرامهم للبحر على البقية الباقية من الذكريات ومازالوا يكتبون في أدبياتهم أسماء بعض المصائد السمكية (الحضرة) مخافة أن تندثر، فمازالوا يحفظونها عن ظهر قلب، فمازالت «حضرة علي» وحضرة «القلف» و«حضرة المطاف» و«البدع واليابسة واروبيعات، والجسر وامشيمية وأم برقة» وغيرها حاضرة في القلب والذهن والروح، محفورة فوق كل قلب، محفورة على جدار كل بيت، تذكرهم بذكريات الأجداد الطيبين وبعيون البحر التي كانت تحرس لهم قواربهم، فكل هذه الذكريات وهذه المحطات التاريخية ستبقى الرجاء والالتماس الذي سيوصلهم إلى مليكهم جلالة الملك كي يتدخل بمبادرة سامية تحفظ لهم بقية البحر وشراء تلك المساحة المتبقية، كي تكون لصالح القرية.

ففي ظل المهرجان المبكي بدأ الجميع يرفع صوته وفي حزن يسأل عن البحر فقد تجمع أكثر أهالي القرية في موقف واحد مشترك يطالبون بالحفاظ على المرفأ المتبقي بعد ان وجدوا أحد الملاك أخذ يبيع في المساحة المتبقية. فالنساء كنّ يقلن - كما جاء في التقرير المسجل عن المهرجان -: «إن البحر قد كسر خاطرنا». وآخرون قالوا: ادعوا الصحافة المحلية والعربية والأجنبية ليروا هذه الفضيحة البيئية ان يحرم عشرات القرى من البحر لينعم به تاجر هنا ورجل أعمال هناك النائب البرلماني جاسم عبدالعال أكد ان المجلس النيابي سيتبنى موضوع سواحل القرية وسيذوذ عنها بكل ما يستطيع واعدا بتحريك وإثارة هذه المسألة على مستوى رفيع والناس الآن في انتظار موقف النائب العزيز وكلهم أمل في أن يروا تصريحاته ومواقفه في البرلمان، وان يستعين بالصحافة لتنوير الرأي العام في القرية، فالقضية بلا إعلام وصحافة تصبح ميتة وكما سمعت فإن أهالي القرية قد رفعت معنوياتهم هذه الأمنيات وانهم سيقومون دائما في نهاية كل أسبوع بلقاء نواب مناطقهم سواء نوابهم في المجلس البلدي أو البرلماني وهؤلاء هم محل ثقة لدى الأهالي وهذا أول محك، ففي كل يوم تطفح قضية بيئية على السطح وكل واحدة أشد من الأخرى وأكثر المتورطين هم استثماريون ابتداء من قضية ساحل باربار الحزين إلى فرضة البديع الحزينة إلى ساحل دمستان والمالكية و... والبقية تأتي.

فإن المواطن على يقين ان القضية إذا وصلت إلى لجنة الإعمار والإسكان والتي يرأسها سمو ولي العهد فإن القضية سيحصل لها مخرج مناسب يرضي الجميع. لأن الجميع قانونيا وشرعا مؤمنون بالحكم الشرعي ونحن أبناء الإسلام ودين الدولة الإسلام كما جاء في الدستور: إن من يملك الأرض المشتراه لا يعني أبدا ملك ساحلها.

والمشكلة الأدهى من ذلك أن بعض رجال الأعمال لا يزورون مثل هذه الفلل إلا مرات معدودة في العام، وهذه قسمة ضيزى فيظل أهل القرية محرومين سنينا لتاجر يأتي كلما اشتاق إلى لقيا البحر.

لقد كان ساحل القرية هذه يمتد سابقا من قرية الهملة إلى قرية كرزكان ويرده كل أهالي القرية، ويقضون فيه أجمل الأوقات ولم يبقَ الآن إلا منفذ يتيم وقد «يدّع» هذا اليتيم أيضا و«يحض» حتى «طعام المسكين» لذلك الصياد المسكين. فلقد بيعت أراضي الساحل وتوجر بها ولم تبقَ حتى قطعة أرض صغيرة للنفع العام، وقد أقام المشترون لهذه الأراضي - كما جاء في شكوى الأهالي - مبانيهم ومنشآتهم الخاصة عليها ما أضاع جميع معالم هذا البحر، وهنا تقتل المنفعة العامة لأجل منفعة خاصة.

لا يشك أحد في ان البحر يبكي في كل ليل وهو يسأل عن أهل القرية لماذ جفوه؟ فمازال يسأل عن اضحياتهم في العيد، عندما تغفو الجفون وتنام العيون يأتي البحر وحده يطرق الأبواب بابا بابا يسأل عن السمار وعن رفقائه في عتمة الصيد وزحمة القدر. وبين كل ذلك يصرخ الصياد حزينا ليرتل أغنية الحزن لإيليا أبوماضي وهو يخاطب البحر:

أنت مثلي أيها الجبار لا تملك أمرك

أشبهت حالك حالي وحكى عذري عذرك

فمتى أنجو من الأسر وتنجو؟: لست أدري

لم تبقَ مؤسسة رسمية لا تعرف عن كل هذا التذمر الذي تعيشه الأهالي لاختطاف بحارها، فهل يكون بعد ذلك حل وخيرا فعلت قرية دمستان وباربار بمهرجانهما، فهو أقل القليل لأجل عيون سواحل البحرين

إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"

العدد 166 - الثلثاء 18 فبراير 2003م الموافق 16 ذي الحجة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً