لا أعرف على وجه اليقين، هل سيحضر القمة العربية الوشيكة، الجنرال علي ولد محمد فال بصفته رئيس موريتانيا العسكري، بعد أن أوفى بتعهده بتسليم السلطة لحكام مدنيين جدد، أم أنه لن يحضر مفسحا الطريق للرئيس المنتخب الجديد!
وبافتراض أنه قد يحضر، على الأقل مودعا بريق القيادة، لا أعرف على وجه اليقين مرة أخرى، كيف سيعامله زملاؤه من القادة... هل سيعاملونه على أنه قائد انقلاب عسكري، سلم السلطة طواعية إلى رئيس مدني، فاستحق إعجاب «العامة والدهماء» من أبناء الأمة، أم سينظرون إليه على أنه رئيس خائن لتقاليد الحكم، ولتوارث السلطة، فاستحق غضب زملائه ونقمتهم!
درس موريتانيا؛ الدولة العربية البعيدة الفقيرة، «3.4 ملايين نسمة بنسبة 46 في المئة تحت خط الفقر 60 في المئة أمية»، تلك الواقعة عند أقصى الهامش العربي غربا، في نجاحها بالانتقال السريع «والديمقراطي» من الحكم العسكري إلى التحكم المدني المنتخب، درس مثير، ليس لأنه طازج وحديث فقط، ولكنه أيضا لأنه درس عميق ونافد...
درس موريتانيا، التي يتهكمون على ديمقراطيتها، ويصفون انتخاباتها الحديثة، بالمسخرة، سيطرح نفسه على قمة الرياض، من دون أن يكون مدرجا رسميا على جدول الأعمال، وسيضع القادة العرب المجتمعين، في موضع الحرج، ويذكرهم بالسابقة «المأسوية» التي ارتكبها الجنرال عبدالرحمن سوار الذهب في الثمانينات، حين تخلى طواعية عن حكم السودان، وسلمه عبر الانتخابات للمدنيين!
أمثالنا من عامة القوم يتساءلون، أليس غريبا أن تأتي السابقتان «المأسويتان» لتنازل العسكر عن الحكم للمدنيين، من جانب دولتين عربيتين إفريقيتين، يعايرهما بعض السادة والقادة، بالفقر والتخلف والبداوة، ويسخرون من ارتكابهما لهذه السوابق المشينة، في حق تقاليد الحكم العربي العتيدة الموروثة منها والمنقولة، الملكية منها والجمهورية، المحافظة والثورية؟
ربما يتذكر قادتنا العرب، أنهم يجتمعون هذه المرة في قمة هي الأولى على جزء من أرض شبه الجزيرة العربية، التي أنبتت قبل ألف وأربعمئة عام، سيدنا محمد بن عبدالله اليتيم الفقير، مبعوثا رسولا للكافة، وسياسيا محنكا وقائدا شجاعا، يشيع في البرية رسالة سماوية منزلة، قوامها الحق والعدل والحرية، ثم وضع خلفاؤه الراشدون، قواعد الحكم بالشورى وحرية الاختيار، من بين الأصلح والأعقل والأعدل، لذلك جاء أبوبكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم جميعا...
لكن بالمقابل حتما يتذكر قادتنا العرب، أنه من الأرض نفسها هذه، خرج معاوية بن أبي سفيان قاصدا الشام في الشمال، حيث بهجة العيش ورغده مخلفا وراءه تقشف الصحراء، ليقيم خلافة إسلامية مغايرة، بقواعد وراثية للحكم سلطة وثروة، غير قواعد الشورى وحرية الاختيار والعدالة، ولينهي عهود الخلافة الراشدة، ويبدأ عهود الحكم السلطوي الوراثي.
نتذكر ويتذكرون، كيف حول معاوية دفة الحكم، ليس فقط من الحجاز إلى الشام، ولكن أساسا من الشورى إلى الفرض القسري، ومن حرية الاختيار للأصلح، إلى الوراثة العائلية... معاوية هو الذي جمع أهل الحل والعقد، ليعلن قراره بتولية ابنه يزيد من بعده، في الخلافة لأول مرة في التاريخ الإسلامي، وحين استشعر عدم الرضا على بعض وجوه الحضور، قال قولته الشهيرة، «من لم يرض بابني خليفة، فليرض بهذا» (شاهرا سيفه)!
ومن يومها والحال في أمتنا كما نعرف وتعرفون، يسير المسير ذاته، وربما بزواجر أشد عنفا وقسوة، وهكذا فأن معاوية طبعا غير سوار الذهب، وولد فال غير يزيد، استثناء من القاعدة العربية المتوارثة، حيث معاوية الحالي هو معاوية السابق، وحيث يزيد الماضي لايزال يحكم الحاضر، والسيف هو السيف مشهر بتار!
وقد قلنا في مقال الأسبوع الماضي، إن جدول أعمال القمة القادمة، مشحون بخمسة ملفات، هي خمسة ألغام متفجرة، تتمثل في أزمات كل من العراق وفلسطين ولبنان والسودان والصومال، وقلنا إنه على رغم اهتمام القمة بها فإنها لا تملك القول الفصل فيها، لأن قرارها مستلب ودورها متراجع، فتم تسليم هذه الملفات الملغومة إلى الأيدي الأجنبية، تديرها وتقرر فيها ما تشاء!
اليوم نقول، إنه غير مطروح على جدول أعمال القمة، موضوعات «رذيلة وثقيلة»، تعكر الصفو وتكدر المزاج وتنغص الأحوال، من نوع إطلاق الحريات والإصلاح الديمقراطي، وإقامة العدل وتداول السلطة، وإرساء دولة القانون والمؤسسات، وقواعد الحكم الصالح الرشيد، وترسيخ العدالة الاجتماعية وحسن توزيع الثروة بالعدل بين المواطنين، ومحاربة الفقر والبطالة، وزجر تحالف الفساد والاستبداد، والامتناع عن أساليب القمع والقهر وتخفيف الازدحام في السجون والمعتقلات، ومكافحة الأمية التي تشمل 70 مليون عربي على الأقل، وتحرير حرية الصحافة والرأي والتعبير من قيودها الغليظة!
ولا نعرف متى ستركز القمة العربية على مثل هذه الموضوعات الثقيلة الرذيلة؟، متى تنظر في الأوضاع المتردية؟، وخصوصا موضوع الإصلاح الديمقراطي واطلاق الحريات العامة، طالما أنها قضت كل ما مضى من سنوات وعقود، منذ اختراع حكاية القمم، في التركيز على «الملفات الساخنة والقضايا القومية»، وخصوصا فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي، ثم كانت النتيجة أن الأمر كله لم يعد بيدها، وإنما بيد غيرها، مثل كل الملفات الساخنة والملغومة الأخرى.
ولا نعرف أيضا إلى أي مدى يطلع قادة القمة على التقارير العربية والدولية الذائعة الصيت والشهرة، التي تتحدث بأسى عن تدهور أوضاع الحريات العامة والخاصة في بلادنا، عن تحالفات الفساد والاستبداد، وعن تفشي البطالة والأمية والإمراض في كيان الأمة، بصرف النظر عن اختلاف النسبة من قطر إلى آخر...
فإن كانوا يطلعون، فإنهم قد عرفوا حتما أن أهم هذه التقارير، وهو التقرير العربي للتنمية البشرية، قد أعلن بوضوح أن تخلف الأمة، هو نتيجة طبيعية لنقائص واضحة فاضحة، «نقص الحرية ونقص المعرفة»... فإن غابت الحرية وحجبت المعرفة، فلن يبقى الا القهر والجهل، والفقر والإحباط، وكلها نواقص ونقائص لا تلد الا التخلف والإرهاب والتطرف الفاشي.
وإن كانوا يقرأون، فإنه لا شك قد قرأوا أن التقرير السنوي لحقوق الإنسان في العالم، الصادر قبل أسابيع عن وزارة الخارجية في أميركا «الصديقة الحليفة»، قد أدان جميع الدول العربية بسبب انتهاكات حقوق الإنسان وتقييد الحريات، وأن التقرير السنوي لبيت الحرية ذائع الصيت، قد وضع جميع الدول العربية ضمن آخر خمسين دولة في العالم الأشد فقرأ في احترام الحريات والحقوق، وأن التقرير السنوي الأخير لمنظمة الشفافية الدولية، قد وضع معظم الدول العربية في تصنيف الأكثر فسادا، ضمن دراسة شملت 159 دولة في العالم، وأن تقارير التنمية البشرية الصادرة عن الأمم المتحدة، تؤكد أن 23 في المئة على الأقل من العرب يعيشون تحت خط الفقر «69 مليونا من بين 300 مليون»، وأن النسبة تتفاوت، حتى تصل إلى 65 في المئة بين الفلسطينيين، و60 في المئة بين الموريتانيين، وما بين 42 و48 في المئة بين المصريين والسودانيين والمغارية!
وللتذكرة فقط فإن خط الفقر يعنى من لا يمتلك الا دولارين فقط في اليوم، وأن معدل الدخل الفردي للأميركي في السنة يصل إلى 25 ألف دولار، والى 18 ألف دولار للفرد الإسرائيلي، في حين انه قد لا يصل الى ألف دولار في السنة للفرد في نحو نصف الدول العربية!
والخلاصة... أن سجلنا في مجال الحريات والتنمية، يظل سجلا فقيرا بشكل لافت للنظر، يتشابه للأسف مع أفقر الدول الإفريقية جنوب الصحراء، على رغم كل ما تمتلكه الأمة من ثروات هائلة... لكنها مهدرة... فإن كنا نهدر قيمة الحريات والحقوق، فلماذا الإصرار على إهدار الثروات، وبهذا الإسراف؟!
لا نعتقد أن أمام القمة العربية، متسعا من الوقت أو الجهد أو الرغبة، في التورط في مناقشة مثل هذه الأوضاع، على رغم أنها أوضاع متفجرة، ألغام قابلة للاشتعال والانفجار في أية لحظة وأي مكان، لكنها لا تلقى الا الإهمال والتجاهل، حيث العين الزائغة لا تبصر الا ما يرضيها، والعين البصيرة هي التي ترى الحال على واقعه، بياضا أو سوادا... فأين هي تلك العين التي تتمتع بالبصر والبصيرة معا؟!...
خير الكلام: قال عمر بن الخطاب «متى استعبدتم الناس وقد ولتهم أمهاتهم أحرارا.
وقال على بن أبى طالب «لو كان الفقر رجلا لقتلته»!
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1657 - الثلثاء 20 مارس 2007م الموافق 01 ربيع الاول 1428هـ