شكل «المؤتمر الدولي» بشأن العراق الذي عقد في 10 الشهر الجاري في بغداد مناسبة لإعادة قراءة أوراق «الشرق الأوسط» وأزماته المترابطة. القراءة ضرورية بعد أن أخذت تظهر في الأفق ملامح تقاطعات دولية وإقليمية تشير إلى وجود صفقات أو تفاهمات سيكون لها انعكاساتها السلبية والإيجابية في حال تم التوافق عليها.
أوراق ملف «الشرق الأوسط» كثيرة ومتداخلة وممتدة سياسيا وجغرافيا واستراتيجيا ومذهبيا. وكل ورقة مرتبطة بالأخرى حتى لو ابتعدت بالمسافات. وكل تسوية بحاجة إلى لقاءات وحوارات وتنازلات قاسية حتى لو ظهرت في الأفق المنظور قوة صاعدة وأخرى هابطة.
حتى الآن لم تستقر الأمور إلا أن المنطقة بدأت تشهد تحولات جزئية في تقاطع المصالح وتعارضها على المستويين الدولي والإقليمي. الولايات المتحدة وهي الدولة المعنية مباشرة بكل أوراق الملف بدأت ترسل إشارات عن استعداد إدارتها للتفاوض مع كل الفرقاء الإقليميين بمن فيهم سورية وإيران. فرنسا التي تبدو الأكثر تضررا من التسويات الإقليمية التي ترعاها واشنطن تمر الآن في فترة انتظار بسبب اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية وخروج جاك شيراك من قصر الاليزيه. روسيا أيضا تبدو في حال ارتباك فهي غير قادرة على المضي في تغطية سياسات واشنطن الطائشة وفي الآن لم تنجح في تأسيس سياسة مستقلة عن المظلة الدولية.
هذا دوليا. إقليميا تبدو الأمور تسير في اتجاهات متقاطعة. اللقاءات الإيرانية - السعودية ساهمت في إعادة تدوير القضايا وخفضت نسبيا من حدة الزوايا، ولكنها أيضا طرحت أسئلة عامة بشأن التعامل مع الملفات الساخنة. المشكلة ليست في الملفات. فالكل متوافق على أهميتها وضرورة وضعها على سكة الحلول السياسية. تبدأ المشكلة في نظام الأولويات وأي ملف يأتي على رأس جدول الأعمال. دوليا يأتي ملف تخصيب اليورانيوم الإيراني على رأس القائمة. والدول الكبرى، بما فيها روسيا والصين، متوافقة على ضرورة منع طهران من التوصل إلى مستوى التخصيب العسكري وهذا الأمر يشكل ثغرة في تحالفات إيران الدولية والإقليمية، ولا يستبعد أن تتسع دائرة الثغرة في حال فشلت طهران في تقديم تطمينات وضمانات في هذا الصدد.
أميركيا يأتي الملف العراقي على رأس القائمة. وتوصلت واشنطن الآن إلى البدء في اعتماد سياسة الجسور المفتوحة على اتجاهات متعاكسة. لفطيا تنتقد إدارة جورج بوش توصيات تقرير لجنة بيكر - هاملتون وعمليا بدأت تتعامل مع بعض بنودها بايجابية.ولفظيا تعلن عن استعدادها للحوار بشأن جدولة برنامج الانسحاب من العراق وميدانيا ترسل المزيد من القوات لتعزيز الخطة الأمنية التي وضعتها بالاتفاق مع حكومة المالكي.
فرنسيا يأتي الملف اللبناني على رأس القائمة. باريس ترفض حتى الآن المساومة على وحدة لبنان ومستقبل كيانه وموقعه الإقليمي. وتربط إدارة شيراك ملف هذا البلد الصغير بمجموعة ملحقات تتصل بالمحكمة ذات الطابع الدولي والعلاقة مع سورية والقرار 1701 المتعلق بموضوع العدوان الإسرائيلي. إلا أن خروج شيراك من الاليزيه في الشهور القليلة المقبلة سيضع لبنان في مأزق سياسي كبير. فالرئيس الديغولي القوي الشخصية أحرج واشنطن في مواضع مختلفة فهو كان ضد الحرب على العراق أو تقسيمه سياسيا وهو ضد الحرب على إيران ويدعم الحل الدبلوماسي للملف النووي وهو أيضا ضد تقسيم لبنان إلى مناطق نفوذ إقليمية كما كان حاله منذ العام 1976. هذا الرئيس الفرنسي المزعج للسياسة الأميركية تنتظر واشنطن خروجه من الاليزيه لتبدأ التفاوض من جديد مع الرئيس البديل لإعادة ترتيب جدول الأولويات في مسرح «الشرق الأوسط».
بريطانيا أيضا في صدد إعادة النظر في جدول أولوياتها. فالحكومة التي يرأسها طوني بلير تعيش لحظاتها الأخيرة وهي تستعد إلى اتخاذ قرارات ميدانية لا تريح كثيرا حليفها الأميركي. إلا أن السياسة البريطانية باتت الآن في موقع الضعيف والمهمش بعد أن ارتضت لندن اتباع خطوات جورج بوش من دون نقاش أو اعتراض. وشكلت هذه التبعية نقطة ضعف لبلير داخليا وخارجيا إذ لم تعد لقرارات بريطانيا تلك الأهمية التقليدية حين باتت تحركاتها محكومة بالسقف الأميركي.
إسرائيليا تبدو حكومة تل أبيب في موقع الضائع فهي حائرة في اتخاذ قرارات في ظل تغيرات دولية وإقليمية تشير إلى تقاطعات لا تصب كلها في استراتيجيتها الأمنية. حكومة أيهود أولمرت راهنت كثيرا على سياسة التقويض الهجومية التي اعتمدتها إدارة بوش منذ العام 2001 وهي لاتزال تراهن على بعث روح القوة في تلك السياسة الشريرة ولكنها اكتشفت في المدة الأخيرة أن واشنطن باتت في مكان غير مريح ولا يسمح لها بالمزيد من الحروب لذلك بدأت تلجأ إلى تكتيك طلب الضمانات والحماية من نمو قوى إقليمية في مسرح «الشرق الأوسط». مشكلة تل أبيب أن طلباتها كثيرة وشروطها ثقيلة الدم. فهي تطلب ضمانات أمنية على الجبهة اللبنانية (حزب الله) وضمانات أخرى من الجانب السوري (السكوت على موضوع الجولان) وضمانات من إيران بعدم تطوير برنامجها النووي ليشمل النواحي غير السلمية، وغيرها من ضمانات لا تستقر في زمان ولا تتوقف في مكان.
أمام هذه المتغيرات التي بدأت تظهر ملامحها في الأفق الدولي والإقليمي بعد عقد مؤتمر بغداد في العاشر من الشهر الجاري كيف يمكن وضع جدول الأولويات؟
رأس القائمة
حتى الآن لايزال الملف النووي الإيراني على رأس القائمة. فهذا الموضوع يمس مصالح طهران الحيوية وحقها في تنويع مصادر الطاقة ولكنه أيضا يثير تكهنات مفتعلة في اتجاهات مختلفة تتحرك من واشنطن وتستقر في موسكو. حتى الكرملين أظهر مرارا اعتراضه على القنبلة النووية الإيرانية المفترضة. إلى ذلك هناك الكثير من الأسئلة الإقليمية بشأن الدور الإيراني في صوغ شخصية «الشرق الأوسط الجديد» في حال توافقت الدول الكبرى على مخرج سياسي للازمة.
بعد الملف النووي يأتي موضوع العراق في شقيه الأميركي والإقليمي. الولايات المتحدة أمام مأزق حقيقي فهي إما أن تعتمد سياسة «وفي الهريبة كالغزالي» وإما أن تعيد ترتيب سلوكها بهدف تنظيم انسحابها بشرط الا يتعرض موقعها الاستراتيجي في المنطقة للانهيار وتحديدا في نقطتين: أمن النفط وأمن «إسرائيل».
إلى هذا هناك انعكاسات متوقعة من التموضع العسكري الأميركي المحتمل على استقرار المنطقة. فالانسحاب السريع سيولد فراغات أمنية قد تجذب دول الجوار مع طوائفها ومذاهبها إلى التصادم. كذلك سيؤدي تنظيم الانسحاب الى سلسلة تنافسات بين المكونات الطائفية والمذهبية في العراق لتعبئة الفراغات وخصوصا إذا فشلت الخطة الأمنية الجديدة في تحقيق أغراضها. الملف العراقي إذا يشمل أكثر من نقطة وهو ممتد جغرافيا وأمنيا ومذهبيا وإقليميا ودوليا. وفي ضوء تداعيات هذا الملف الساخن سترتسم الكثير من خطوط الطول والعرض في جغرافية «الشرق الأوسط» وتضاريسها المذهبية والمناطقية والنفطية.
بعد ملف العراق يأتي أمن «إسرائيل» وثقل دم هذه الدويلة الكارثة على المنطقة ونموها وتقدمها وازدهارها. كيف ستتعامل إدارة بوش مع هذا الموضوع؟ وما هي نقاط التقاطع والافتراق بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي في هذه المسألة؟ حتى الآن تكرر إدارة بوش تلك التصريحات المتعلقة بضرورة انشاء «دولتين» ولكنها لم تذهب إلى مستوى تقديم تصورات واضحة بشأن التفصيلات وتحديدا الحدود والسيادة والعاصمة «وجدار الفصل العنصري». إلا أن المشكلة لم تعد تقتصر على الداخل الفلسطيني بقدر ما أصبحت ممتدة جغرافيا وتتجاوز الحدود اللبنانية والسورية وتصل أحيانا إلى ما بعد حدود إيران (باكستان). وفي حال تمسكت «إسرائيل» بطلباتها الثقيلة الظل ولم تستطع واشنطن اقناعها بضرورة التكيف مع المتغيرات الإقليمية والقبول بواقع نشوء معادلة جديدة أخذت تضغط على التوازنات التقليدية سيدخل الاستقرار في المنطقة في دائرة الفوضى كما هو أمر العراق منذ احتلاله.
بعد أمن «إسرائيل» يأتي الملف اللبناني وهو يتضمن مجموعة أوراق تتصل بالقرار الدولي 1701 (أمن الكيان العبري) وأمن سورية (المحكمة الدولية) والتوازن العربي الإقليمي في هذا البلد الصغير. وملف لبنان وما يتعلق باستقراره ووحدة كيانه يمتد موضوعيا إلى خارج حدوده. لذلك لا يمكن استنباط التوقعات بشأنه قبل تبلور اللقاءات الإقليمية والدولية الجارية على ضفاف دجلة والخليج.
المنطقة الآن في حال انتظار وترقب لمناخات المتغيرات الدولية والإقليمية وما ستتركه من انعكاسات على مسرح «الشرق الأوسط». وهذه المتغيرات مشروطة في نقطتين مهمتين: أولا، مصير ذاك التجاذب بين وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس ونائب الرئيس الأميركي ديك تشيني الذي يعتبر آخر بقايا تيار «المحافظين الجديد» فإذا رجحت كفة رايس فإن احتمالات التهدئة تصبح مرجحة.
ثانيا، مصير الرئاسة الفرنسية بعد خروج شيراك من الاليزيه. إذا فاز مرشح الطبعة الفرانكفونية لتيار «المحافظين الجدد» في الانتخابات فمعنى ذلك أن واشنطن ستصبح في موقع مريح أوروبيا وستكون في مكان مطابق لسياستها الهجومية وربما التقسيمية التي يرفضها شيراك سواء في العراق أو لبنان.
في انتظار التحولات السياسية في واشنطن والمتغيرات الرئاسية في باريس يمكن القول إن «المؤتمر الدولي» الذي عقد في بغداد شكل مناسبة لإعادة قراءة أوراق «الشرق الأوسط» ولكن التطورات تحتاج إلى فترة زمنية حتى تتضح ملامح صورة التقاطعات الدولية والإقليمية التي سترسم خريطة ستكون جديدة في كل الحالات.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1650 - الثلثاء 13 مارس 2007م الموافق 23 صفر 1428هـ