مضى أكثر من مئة يوم على الاعتصام السلمي في وسط بيروت. وحتى الآن تبدو الأمور تراوح مكانها في انتظار تبلور الأفق الدولي/ الإقليمي للتسوية المؤقتة. وفي حال استمرت المراوحة في مكانها سيدخل وسط بيروت في غيبوبة لا يستبعد أن تترك سلبياتها الكبيرة على البلد الصغير.
من يزور وسط بيروت بعد مئة يوم على الاعتصام يلاحظ بسرعة تلك التأثيرات السلبية على حياة مركز المدينة. فهناك عشرات المؤسسات أقفلت ورحلت عن لبنان، وهناك عشرات أخرى عطلت نشاطها ونقلته إلى مناطق لبنانية بعيدة عن المركز، وهناك مئات الأعمال الصغيرة أفلست، وهناك مئات غيرها في طريق الإفلاس. فالوسط عموما دخل في مرحلة ضمور، وهناك خطوات قليلة متبقية قبل دخول مركز المدينة حال «الموات» والانطفاء.
وسط بيروت لا يختلف عن وسط أي مدينة أو عاصمة في العالم. فالوسط يعني المركز. ومركز الدائرة يعطي عادة صورة مصغرة عن الدولة وأطرافها. فهو الجامع لنقاط الدائرة وعادة يشكل حالا مركبة من أجزاء متنافرة تعكس صورة البلد وتختصر المسافات البعيدة وتختزلها في جزئيات صغيرة. وحين يصاب المركز (الوسط) بالشلل تبدأ أعراض المشكلة بالانتقال إلى أطراف الدائرة. وهذا بالضبط ما حصل لدولة لبنان حين انفجرت الحروب الأهلية/ الإقليمية في العام 1975.
في ذاك العام بدأت المناوشات ترسم خطوط تماس طائفية بين أحياء المدينة. إلا أن الضربة الكبرى كانت في تلك اللحظة التي تطورت فيها التحرشات إلى مواجهات عنيفة في قلب بيروت القديمة. ومنذ تلك الفترة التي ابتدأت في سبتمبر/ أيلول 1975 عاش لبنان لحظات تفكك وانهيار. فالمركز حين تشتعل فيه النار تنتقل فورا إلى المحيط ومنه إلى الأطراف. وهذه معادلة لا تحتاج إلى ذكاء لإدراكها. في ذلك العام أخذت الإشارات تتضح معالمها وترسم في الأفق خطوط تماس جديدة تعيد تشكيل العلاقات الأهلية وتبعثرها إلى أشلاء طائفية ومذهبية.
الوسط (المركز) يمثل رمز الوحدة. وحين يضرب وسط المدينة تبدأ الرساميل بالتفكك والهرب أو الانتقال في محاولة منها للتكيف مع التقسيمات السياسية المفتعلة. وهذا ما أدى لاحقا إلى نشوء مراكز تجارية مختلفة ومتجانسة إلى حد معين مع طبيعة المنطقة المذهبية والطائفية. الرأسمال جبان، ولكنه أيضا يتمتع بنسبة من الذكاء تسمح له بالتلون والتكيف مع التكوين الثقافي للاجتماع. وهذه الطبيعة اللزجة للرساميل تعطي فرصة للأموال للهرب بسرعة إلى الخارج أو للانتقال إلى الداخل بحثا عن مصدر رزق وربح يتكيف مع الطائفة أو المذهب أو المنطقة.
ساهمت الحروب اللبنانية التي اندلعت في العام 1975 وما بعده في «تطييف» الرساميل وتلوينها بالمذاهب والمناطق. وتطور الأمر حين تمركزت المواجهات في وسط المدينة التي نالت النصيب الأوفر من الخراب والدمار. فالمركز تحول إلى مراكز، والمراكز شكلت إشارات موضعية لوجود مشروع يستهدف تفكيك اقتصاد البلد وتوزيعه على المناطق والطوائف. وهذا ما حصل واقعيا خلال الفترة الممتدة إلى خريف العام 1990. آنذاك تشكلت في بيروت مراكز تجارية بديلة، وفي لبنان توزعت على الطوائف أنشطة الدولة ونهضت في كل منطقة ما يمكن وصفه بوسط تجاري مستقل عن الآخر. وترافقت مع تلك التقسيمات المذهبية للرساميل وظائف مختلفة. فأصبح كل مركز له وظيفته الخاصة. فهذا الحي للنشاط التجاري وذاك للنشاط المالي وغيره للسهر والتسلية... وهكذا.
«تعاونية» رأسمالية
استمر الحال إلى ما بعد «اتفاق الطائف». كان من الصعب إعادة توحيد المناطق بعد خراب الوسط ودماره. حصل نوع من توزيع الأدوار وتقسيم الوظائف بين ابن بيروت «الشرقية» وابن بيروت «الغربية». لذلك كان لابد من إعادة إحياء مركز العاصمة حتى تعود فكرة «اللبنانية» إلى صدارة الوعي السياسي المفقود.
مشروع «سوليدير» فكرة بسيطة، ولكنها كانت ذكية آنذاك على رغم سلبياتها وما شابها من تأويلات وتفسيرات واحتجاجات. فالفكرة تشبه التعاونية الرأسمالية من حيث كونها تجمع بين أصحاب الأرض وأصحاب المال. الملاكون ينتمون إلى آلاف العائلات التي توارثت عقارات المدينة القديمة أبا عن جد. وكانت هناك استحالة في إعادة إعمار الوسط من دون خطة هندسية تجمع الملكيات العقارية الصغيرة التي تناثرت إلى جزيئات بسبب نظام التوريث. فكل عقار كان يملكه ورثة وأبناء عمومة وأخوال وغيرهم من أصحاب أرض لا يملكون المال. هذا التفكك عطل إمكانات النهوض بالمركز من جديد. ودفع هذا الأمر إلى التفكير بإنشاء مؤسسة تقوم بمهمة التعمير ضمن ضوابط معاصرة تحفظ الآثار من الخراب وتحصن بقايا المدينة من الفوضى العمرانية. وجاءت فكرة «التعاونية» الرأسمالية التي توحد صاحب الأرض مع صاحب المال في إطار وظائفي يقوم على سياسة تسييل العقارات إلى رأس مال وضخ المال في المقابل في أسهم توفر للشركة إمكانات إعادة إحياء وسط المدينة.
بداية حصلت الكثير من النقاشات والاعتراضات، لأن الفكرة مبتكرة وجديدة على لبنان. ونال المشروع سلسلة هجمات مختلفة الاتجاهات بدءا من التقويم الشرعي للحقوق والمصالح وانتهاء بالانتقادات الطبقية التي تنتسب إلى «ماركسية» ساذجة ومبتذلة تنتمي إلى عقلية متحجرة فشلت في تجاوز آليات التحليل الاجتماعي الذي كان سائدا في القرن التاسع عشر.
بعد أخذ ورد نجح المشروع في نيل ثقة مجلس النواب وبدأت الشركة في تطبيق فكرة «التعاونية» الرأسمالية ميدانيا. وخلال سنوات قليلة ظهر على السطح مركز مدينة رائع الجمال أخذ يجذب الرساميل والاستثمارات والسياح من العالم العربي والعالم.
عودة الوسط التجاري إلى مدينة بيروت كان إشارة قوية لاحتمال إعادة إحياء الفكرة «اللبنانية» وما تتطلبه من مركز يؤسس من جديد تلك الدولة التي مزقتها الحرب وتوزعت وظائفها الطوائف والمذاهب والمناطق. لذلك كان زعماء الميليشيات أكثر الناس اعتراضا على المشروع لكونه يجفف ينابيع الفيديراليات ويعطل عليهم سير أعمال التفكيك والتقسيم. كذلك احتج على إعادة إحياء المركز كل المستفيدين من الانقسامات المالية والوظائفية للأنشطة الاقتصادية التي تلونت جهويا بالطوائف والمذاهب. فالوسط اقتصاديا يعني إعادة تركيب الأجزاء في صور مصغرة. والوسط سياسيا يعني تثبيت مركز الدائرة لشد الأطراف ومنعها من التشرذم أو الذهاب بعيدا خارج حدود الدولة.
الآن وبعد مضي أكثر من مئة يوم على الاعتصام في وسط بيروت أخذت صورة العام 1975 ترتسم من جديد في ساحات المذاهب والطوائف والمناطق. فالمركز يمر في حال ضمور وخواء. وحين يضرب الوسط وتنشل قواه تتأسس بحكم الواقع وآلياته المتوارثة قواعد «دويلات» فيدرالية على نمط تلك التي بدأت تظهر تلاوينها في العراق وليس مستبعدا أن يعاد إنتاجها في لبنان.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1649 - الإثنين 12 مارس 2007م الموافق 22 صفر 1428هـ