ليس من الصعب أن يصبر الفرد منّا على سيارة قديمة متهالكة، تبيت عند الميكانيكي أكثر مما تبات عنده، ويمكن أن يتقبل الفرد في نهاية المطاف ارتداء ملابس بالية وقديمة مادام لا يملك مالا لشراء أخرى جديدة، وربما يستحب البعض العيش في الخيام والأكواخ بدلا من المنازل الفخمة والقصور الفارهة.
ولكن الأمر الوحيد الذي لم يتغير منذ أن خلق الله الخلق، هو الحاجة للطعام؛ إذ لا يمكن أن يصبر الناس من دون طعام وماء.
صحيح أن البحرين ومنذ أمد، برقعتها الجغرافية مستحيل أن تتمكن من توفير غذائها كاملا بنفسها، ولكن الصحيح أيضا أن سياسات حكومية ساهمت في رفع الحاجة لاستيراد الغذاء لتصل إلى أكثر من 90 في المئة بحسب بعض الباحثين.
في الثلاثينات حين اكتشف النفط، وجد الكثير من المزارعين الذين يعملون في مزارع يمتلكها علية القوم وكبراؤهم، أن العمل في شركة النفط والتي كان يطلق عليها آباؤنا «الجبل» في الجواب عن سؤال أين تعمل، أجدى وأكثر ربحا من العمل في الزراعة. وبذلك ماتت النخيل واقفة وتقلص عددها لبضع آلاف بعد أن كانت مليون نخلة، ولم تعد المزارع تنتج سوى القليل جدا من الخضار، خصوصا بعد أن انضم عدّة آلاف من المزارعين للعمل في «الجبل» آنذاك.
ومعروف أن من عيوب اقتصاديات الدول النامية ومنها بلدنا، وجود جيوب لبعض الأنشطة الاقتصادية، كتصنيع النفط مثلا، لا علاقة لها بالقطاعات المحلية الأخرى وليس لها دور تكاملي معها، وإنما تخدم حاجات الدول المتقدمة للمواد الأولية والطاقة، فترتفع أجور العاملين في هذه الجيوب حتى لو كان مستواهم أقل من الآخرين الذين يعملون في شركات خاصة، فكيف بالزراعة والمزارعين الذين أهملتهم الدولة؟
بعد ارتفاع أسعار النفط بداية السبعينات لدرجة كبيرة جدا، أكملت الحكومة سياسة اقتصادية تقوم على الاعتناء بإقامة المباني، وإهمال الشأن الزراعي، مما أغرى بعض أصحاب البساتين بتحويل أراضيهم لقسائم سكنية، فتوسعت المناطق من حيث المباني وتقلصت المساحة الخضراء بعد أن تم طرد من تشبث بالزراعة من الفلاحين.
نستذكر الماضي القريب حين شنّ صدّام حربه ضد الكويت، وكم ساد الذعر قلب هذه الجزيرة خوفا من احتمال تأثر حركة النقل إليها، فاستعرت حمى تخزين المعلبات الغذائية بكميات كبيرة في المنازل، وفي الآونة الأخيرة إذ ارتفعت أسعار بعض السلع الغذائية لدرجة كبيرة جدا. ومثل هذه الظروف والأحداث جديرة لطلب إعادة النظر في سياسة التنمية الاقتصادية التي يجب أن تعتني بشدة بتلبية الحاجات الأساسية للناس متمثلة بالدرجة الأولى بالغذاء قبل كل شيء.
وحتى لو لم يكن من جدوى اقتصادية ذات مردود كبير لقطاع الزراعة، فهذا السبب وحده يكفي للعناية بالزراعة ودعمها وتوسيع رقعتها، وإقامة قرى زراعية من أجل ذلك إذا ما زالت توجد أراضٍ صالحة للزارعة، وذلك بدلاُ من الإيغال في سياسة تنمية المال من خلال المال النقدي وحده، أو البحث عن سبل أخرى تكفل تأمين الغذاء وتضمن استمرار تدفقه وبأسعار في متناول الكل، حتى لا يكون الغذاء هم جديد يُضاف لهموم الإسكان والتعليم العالي وغيرها من متطلبات يعاني منها أكثر المواطنين، بينما نحن في دولة نفطية إيرادات الحكومة من النفط تبلغ أكثر من 70 في المئة.
وحتى يتضح مدى أهمية هذا الجانب، فنحن نعرف أن القطاع الزراعي في الدول الصناعية المتقدمة لا يمثل شيئا كبيرا، ولا يسهم إلا بشكل يسير في اقتصاديات تلك الدول، مع ذلك، ترفض هذه الدول فتح أسواقها للمنتجات الزراعية للبلدان النامية، خوفا من انكفاء المزارع المحلية عن الإنتاج يدفعها لذلك صعوبة منافستها لمنتجات الدول النامية التي يتم إنتاجها بأيد عاملة رخيصة.
وفي ظل العولمة والدعوة لتحرير التجارة العالمية من خلال رفع القيود الجمركية وإنهاء الحماية الأبوية للمنتجات الوطنية، تسلك هذه الدول مختلف الأساليب للمحافظة على أمنها الغذائي، فتضع العراقيل لدخول المنتجات الزراعية من الخارج وشروط يصعب قياسها كالشروط الصحية.
الأهم من ذلك، تقوم الحكومات الغربية بدعم المزارعين المحليين بمبالغ كبيرة جدا تمكنهم من منافسة المنتجات القادمة من الدول النامية التي تشكل الزراعة النسبة الأكبر من اقتصادياتها.
ويكفي أن نعرف أن الإعانات السنوية لصناعة الألبان في الاتحاد الأوربي 913 دولارا للبقرة الواحدة، وهذا يفوق معدّل الدخل للفرد في إفريقيا جنوب الصحراء، والذي يصل إلى 490 دولارا للفرد فقط. (المصدر، تقرير التنمية البشرية للعام 2003).
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1633 - السبت 24 فبراير 2007م الموافق 06 صفر 1428هـ